فليس من الله تعالى في شيء ، ثم جعل جل شأنه من شرط الإيمان زوال المعارضة بالكلية فلا بد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راض ووجه ضاحك (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بسيف المجاهدة لتحيى حياة طيبة (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) وهي الملاذ التي ركنتم إليها وخيمتم فيها وعكفتم عليها ، أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى ، أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكيل مثلا (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهم أهل التوفيق والهمم العالية ، وأيد الاحتمال الثاني بما حكي عن بعض العارفين أنه سئل إبراهيم بن أدهم عن حاله فقال إبراهيم : أدور في الصحارى وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر فهل يصح حالي في التوكل فقال : إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد» (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لما فيه من الحياة الطيبة (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) بالاستقامة بالدين (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) وهو كشف الجمال (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو التوحيد (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بما لا يدخل في حيطة الفكر (مِنَ النَّبِيِّينَ) أرباب التشريع الذين ارتفعوا قدرا فلا يدرك شأواهم (وَالصِّدِّيقِينَ) الذين قادهم نورهم إلى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك فصدقوا بما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم من غير دليل ولا توقف (وَالشُّهَداءِ) أهل الحضور (وَالصَّالِحِينَ) أهل الاستقامة في الدين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) من أنفسكم فإنها أعدى أعدائكم (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) اسلكوا في سبيل الله تعالى جماعات كل فرقة على طريقة شيخ كامل (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) في طريق التوحيد والإسلام واتبعوا أفعال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتخلقوا بأخلاقه (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) أي ليثبطن المجاهدين المرتاضين (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) شدة في السير (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ) حيث لم أفعل كما فعلوا (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) مواهب غيبية وعلوم لدنية ومراتب سنية وقبول عند الخواص والعوام (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أي حسدا لكم (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) دونهم (فَوْزاً عَظِيماً) وأنال ذلك وحدي (وَمَنْ يُقاتِلْ) نفسه (فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ) بسيف الصدق (أَوْ يَغْلِبْ) عليها بالظفر لتسلم على يده (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وهو الوصول إلينا (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وخلاص المستضعفين (مِنَ الرِّجالِ) العقول (وَالنِّساءِ) الأرواح (وَالْوِلْدانِ) القوى الروحانية (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) وهي قرية البدن (الظَّالِمِ أَهْلُها) وهي النفس الأمارة (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يلي أمورنا ويرشدنا (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على من ظلمنا وهو الفيض الأقدس ، نسأل الله تعالى بمنه وكرمه.
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله تعالى الموصل لهم إليه عزوجل وفي إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) فيما يبلغ بهم إلى الشيطان وهو الكفر فلا ناصر لهم سواه (فَقاتِلُوا) يا أولياء الله تعالى إذا كان الأمر كذلك. (أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ). جميع الكفار فإنكم تغلبونهم. (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً). في حد ذاته فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى (الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) [الصف : ٤] وهو سبحانه وليكم ، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذانا بظهورها ، وفائدة (كانَ) التأكيد ببيان أن كيده مذ كان ضعيف ، وقيل : هي بمعنى صار أي صار ضعيفا بالإسلام ، وقيل : إنها زائدة وليس بشيء.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) نزلت كما قال الكلبي : في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص كان يلقون من المشركين أذى شديدا