وهم بمكة قبل الهجرة فيشكون إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويقولون : ائذن لنا يا رسول الله في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا والنبي صلىاللهعليهوسلم يقول : كفوا أيديكم وأمسكوا عن القتال فإني لم أومر بذلك ، وفي رواية : إني أمرت بالعفو. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). واشتغلوا بما أمرتم به ، ولعل أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيها على أن الجهاد مع النفس مقدم وما لم يتمكن المسلم في الانقياد لأمر الله تعالى بالجود بالمال لا يكاد يتأتى منه الجود بالنفس ، والجود بالنفس أقصى غاية الجود ، وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلىاللهعليهوسلم لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار إليه في صدر الكلام إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه ، وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض ، وقيل : للإيذان بكون ذلك بأمر الله تعالى (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) أي الكفار أن يقتلوهم ، وذلك لما ركز في طباع البشر من خوف الهلاك (كَخَشْيَةِ اللهِ) أي كما يخشون الله تعالى أن ينزل عليهم بأسه ، والفاء عاطفة وما بعدها عطف على (قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) باعتبار معناه الكنائي إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولي المعطوفين ، وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل : ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه ـ بمقتضى البشرية ـ جماعة منهم ، وتوجيه التعجيب إلى الكل مع أن تلك الكراهة إنما كانت من البعض للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر من أحدهم ما ينافي حالته الأولى ، و (إِذا) للمفاجأة وهي ظرف مكان ، وقيل : زمان وليس بشيء ، وفيها تأكيد لأمر التعجيب ، و (فَرِيقٌ) مبتدأ ، و (مِنْهُمْ) صفته ، و (يَخْشَوْنَ) خبره ، وجوز أن يكون صفة أيضا أو حالا ، والخبر (إِذا) و (كَخَشْيَةِ اللهِ) في موقع المصدر أي خشية كخشية الله ، وجوز أن يكون حالا من فاعل (يَخْشَوْنَ) ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية الله تعالى أي مشبهين بأهل خشيته سبحانه ، وقيل ـ وفيه بعد ـ إنه حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية الله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) عطف عليه إن جعلته حالا أي أنهم (أَشَدَّ خَشْيَةً) من أهل خشية الله ، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم ، ولا يعطف عليه على تقدير المصدرية ـ على ما قيل بناء على أن (خَشْيَةً) منصوب على التمييز وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية ، وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلا للموصوف بأفعل التفضيل فيصير المعنى إن خشيتهم أشدّ من خشية غيرهم ، ويؤول إلى أن خشية خشيتهم أشدّ ، وهو غير مستقيم اللهم إلا على طريقة جدّ جدّه ـ على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني ـ ويكون كقولك : زيد جدّ جدّا بنصب جدّا على التمييز لكنه بعيد ، بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه ، والمعنى ـ يخشون الناس خشية كخشية الله ، أو خشية كخشية أشدّ خشية منه تعالى ـ ولكن على سبيل الفرض إذ لا أشدّ خشية عند المؤمنين من الله تعالى ، ويؤول هذا إلى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة واحدة ، وذكر ابن الحاجب أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل ـ أي يخشون الناس كخشية الناس ، أو يخشون أشدّ خشية ـ على أن الأول مصدر والثاني حال ، وقيل عليه : إن حذف المضاف أهون من حذف الجملة وأوفى بمقتضى المقابلة وحسن المطابقة ؛ وجوز أن يكون (خَشْيَةً) منصوبا على المصدرية و (أَشَدَّ) صفة له قدمت عليه ، فانتصب على الحالية ، وذكر بعضهم أن التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ما انتصب عنه نحو (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) [يوسف : ٦٤] فإن الحافظ هو الله تعالى كما لو قلت : الله خير حافظ بالجر ، وحينئذ لا مانع من أن تكون الخشية نفس الموصوف ولا يلزم أن يكون للخشية خشية بمنزلة أن يقال : أشد خشية بالجر ، والقول ـ بأن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم واللفظ ـ محل نظر محل نظر ، إذ اتحاد اللفظ مع حذف الأول ليس فيه كبير محذور.