وهذا إيراد قوي على ما قيل ، وقد نقل ابن المنير عن الكتاب ما يعضده فتأمل ، و (أَوْ) قيل : للتنويع ، وقيل للإبهام على السامع ، وقيل : للتخيير ، وقيل : بمعنى الواو ، وقيل : بمعنى بل (وَقالُوا) عطف على جواب ـ لما ـ أي (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) فاجأ بعضهم بألسنتهم ، أو بقلوبهم ، وحكاه الله تعالى عنهم على سبيل تمني التخفيف لا الاعتراض على حكمه تعالى ، والإنكار لإيجابه ولذا لم يوبخوا عليه (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) في هذا الوقت.
(لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وهو الأجل المقدر ؛ ووصف بالقريب للاستعطاف أي أنه قليل لا يمنع من مثله ، والجملة كالبيان لما قبلها ولذا لم تعطف عليه ، وقيل : إنما لم تعطف عليه للإيذان بأنهما مقولان مستقلان لهم ، فتارة قالوا الجملة الأولى ، وتارة الجملة الثانية ، ولو عطفت لتبادر أنهم قالوا مجموع الكلامين بعطف الثانية على الأولى (قُلْ) أي تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود عن القتال ، والتأخير إلى الأجل المقدر من المتاع الفاني وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي (مَتاعُ الدُّنْيا) أي جميع ما يستمتع به وينتفع في الدنيا (قَلِيلٌ) في نفسه سريع الزوال وهو أقل قليل بالنسبة إلى ما في الآخرة (وَالْآخِرَةُ) أي ثوابها المنوط بالأعمال التي من جملتها القتال (خَيْرٌ) لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات ، وفي اختلاف الأسلوب ما لا يخفى ، وإنما قال سبحانه (لِمَنِ اتَّقى) حثا لهم وترغيبا على الاتقاء والإخلال بموجب التكليف.
وقيل : المراد أن نفس الآخرة خير ولكن للمتقين ، لأن للكافر والعاصي هنالك نيرانا وأهوالا ، ولذا قيل : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، ولا يخفى أن الأول أنسب بالسياق (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) عطف على مقدر أي تجزون فيها ولا تبخسون هذا المقدار اليسير فضلا عما زاد من ثواب أعمالكم فلا ترغبوا عن القتال الذي هو من غرورها ، وقرأ ابن كثير وكثير «ولا يظلمون» بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من.
(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) يحتمل أن يكون ابتداء كلام مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن سيد المخاطبين صلىاللهعليهوسلم إلى من ذكر أولا اعتناء بإلزامهم إثر بيان حقارة الدنيا وفخامة الآخرة بواسطته صلىاللهعليهوسلم فلا محل للجملة من الإعراب ، ويحتمل أن يكون داخلا في حيز القول المأمور به ، فمحل الجملة النصب ، وجعل غير واحد ما تقدم جوابا للجملة الأولى من قولهم ، وهذا جوابا للثانية منه ، فكأنه لما قالوا : (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ)؟ أجيبوا ببيان الحكمة بأنه كتب عليكم ليكثر تمتعكم ويعظكم نفعكم لأنه يوجب تمتع الآخرة ، ولما قالوا : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا)؟! إلخ أجيبوا بأنه (أَيْنَما تَكُونُوا) في السفر ، أو في الحضر (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) لأن الأجل مقدر فلا يمنع عنه عدم الخروج إلى القتال ، وفي التعبير بالإدراك إشعار بأن القوم لشدة تباعدهم عن أسباب الموت وقرب وقت حلوله إليهم بممر الأنفاس والآنات كأنهم في الهرب منه وهو مجد في طلبهم لا يفتر نفسا واحدا في التوجه إليهم ، وقرأ طلحة بن سليمان (يُدْرِكْكُمُ) بالرفع ، واختلف في تخريجه فقيل : إنه على حذف الفاء كما في قوله ـ على ما أنشده سيبويه. :
من يفعل الحسنات الله يشكرها |
|
والشر بالشر عند الله مثلان |
وظاهر كلام الكشاف الاكتفاء بتقدير الفاء ، وقدر بعضهم مبتدأ معها أي فأنتم يدرككم ، وقيل : هو مؤخر من تقديم ، وجواب الشرط محذوف أي ـ يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم ـ واعترض بأن هذا إنما يحسن فيما إذا كان ما قبله طالبا له كما في قوله :
يا أقرع بن حابس يا أقرع |
|
إنك إن يصرع أخوك تصرع |
أو فيما إذا لم تكن الأداة اسم شرط ، وأجيب بأن الشرط الأول وإن نقل عن سيبويه إلا أنه نقل عنه أيضا