واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون ، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا ، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلي بها عقوبة كما سيأتي بيانه.
وهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل : ردا على أسلاف اليهود من قوله تعالى : (إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) [الأعراف : ١٣١] أي إنما سبب خيرهم وشرهم عند الله تعالى لا عند غيره حتى يستند ذلك إليه ويطيروا به ـ قاله شيخ الإسلام ـ ومنه يعلم اندفاع ما قيل : إن القوم لم يعتقدوا أن النبي صلىاللهعليهوسلم فاعل السيئة كما اعتقدوا أن الله تعالى فاعل الحسنة بل تشاءموا به وحاشاه عليه الصلاة والسلام فكيف يكون هذا ردا عليهم ، ولا حاجة إلى ما أجاب به العلامة الثاني من أن الجواب ليس مجرد قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) بل هو إلى قوله سبحانه : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) إلخ وقوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) أي اليهود والمنافقين المحتقرين (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) أي يفهمون (حَدِيثاً) أي كلاما يوعظون به وهو القرآن ، أو كلاما ما أو كل شيء حدث وقرب عهده كلام من قبله تعالى معترض بين المبين وبيانه مسوق لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والجملة المنفية حالية والعامل فيها ما في الظرف من الاستقرار أو الظرف نفسه ، والمعنى حيث كان الأمر كذلك فأي شيء حصل لهؤلاء حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا نصوص القرآن الناطقة بأن الكل فائض من عند الله تعالى ، أو بمعزل من أن يفهموا ـ حديثا ـ مطلقا حتى عدوا كالبهائم التي لا أفهام لها ، أو بمعزل من أن يعقلوا صروف الدهر وتغيره حتى يعلموا أنه لها فاعلا حقيقيا بيده جميع الأمور ولا مدخل لأحد معه ، ويجوز أن تكون الجملة استئنافا مبنيا على سؤال نشأ من الاستفهام وهو ظاهر ، وعلى التقديرين فالكلام مخرج مخرج المبالغة في عدم فهمهم فلا ينافي اعتقادهم أن الحسنة من عند الله تعالى ، ويفهم من كلام بعضهم أن المراد من الحديث هو ما تفوهوا به آنفا حيث إنه يلزم منه تعدد الخالق المستلزم للشرك المؤدي إلى فساد العالم ، وإن ما في حيز الأمر ردّ لهذا اللازم ، وقدم لكونه أهم ثم استأنف بما هو حقيقة الجواب أعني قوله سبحانه (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وعلى ما ذكرنا ـ ولعله الأولى ـ يكون هذا بيانا للجواب المجمل المأمور به ، والخطاب فيه كما قال الجبائي وروي عن قتادة : عام لكل من يقف عليه لا للنبي صلىاللهعليهوسلم كقوله :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته |
|
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا |
ويدخل فيه المذكورون دخولا أولياء ، وفي إجراء الجواب أولا على لسان النبي صلىاللهعليهوسلم وسوق البيان من جهته تعالى ثانيا بطريق تلوين الخطاب ، والالتفات إيذان بمزيد الاعتناء به والاهتمام برد اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد ، والإشعار بأن مضمونه مبني على حكمة دقيقة حرية بأن يتولى بيانها علام الغيوب عزوجل ، والعدول عن خطاب الجميع كما في قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية بعضهم لعقوبة الآخرين ، و (ما) كما قال أبو البقاء : شرطية و «أصاب» بمعنى يصيب والمراد ـ بالحسنة والسيئة ـ هنا ما أريد بهما من قبل ، أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي من الله تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وكل ما يفعله العبد من الطاعات التي يرجى كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمة الوجود ، أو نعمة الإقدار على أدائها مثلا فضلا عن أن تستوجب نعمة أخرى ، ولذلك قال صلىاللهعليهوسلم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة : «لن يدخل أحدا عمله الجنة قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى بفضل رحمته» (وَما أَصابَكَ مِنْ) بلية ما من البلايا فهي بسبب