اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها ، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة وهذا كقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ، وأخرج الترمذي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها ـ أو ما دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : ما كان من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك ، وعن أبي صالح مثله ، وقال الزجاج : الخطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والمقصود منه الأمة ، وقيل : له عليه الصلاة والسلام لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير ، ولعل العدول عن خطابهم لإظهار كمال السخط والغضب عليهم ؛ والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة ، ثم اعلم أنه لا حجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين لأن إحداهما بظاهرها لنا ، والأخرى لهم فلا بد من التأويل وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية ، والخلاف في الثاني ، ولا تعارض بينهما أيضا لظهور اختلاف جهتي النفي والإثبات ، وقد أطنب الإمام الرازي في هذا المقام كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح ، واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات ، وقال بعضهم : يمكن أن يقال : لما جاء قوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) بعد قوله سبحانه : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة ، والسيئة على البلية ، ولما أردف قوله عزوجل : و (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) بما سيأتي ناسب أن يحملا على ما يتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة ـ كما روي ذلك عن أبي العالية ـ ولهذا غير الأسلوب فعبر بالماضي بعد أن عبر بالمضارع ، ثم نقل عن الراغب أنه فرق بين قولك : هذا من عند الله تعالى ، وقولك هذا من الله تعالى ؛ بأن من عند الله أعم من حيث إنه يقال فيما كان برضاه سبحانه وبسخطه ، وفيما يحصل ، وقد أمر به ونهى عنه ؛ ولا يقال : من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره ، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه : «إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان» فتدبر.
ونقل أبو حيان عن طائفة من العلماء أن (ما أَصابَكَ) إلخ على تقرير القول أي (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) يقولون (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) إلخ ، والداعي لهم على هذا التمحل توهم التعارض ، وقد دعا آخرين إلى جعل الجملة بدلا من (حَدِيثاً) على معنى أنهم لا يفقهون هذا الحديث أعني (ما أَصابَكَ) إلخ فيقولونه غير متحاشين عما يلزمه من تعدد الخالق وآخرين إلى تقدير استفهام إنكاري أي (فَمِنْ نَفْسِكَ) ، وزعموا أنه قرئ به ، وقد علمت أن لا تعارض أصلا من غير احتياج إلى ارتكاب ما لا يكاد يسوغه الذوق السليم ، وكذا لا حجة للمعتزلة في قوله سبحانه : (حَدِيثاً) على كون القرآن محدثا لما علمت من أنه ليس نصا في القرآن ، وعلى فرض تسليم أنه نص لا يدل على حدوث الكلام النفسي والنزاع فيه ، ثم وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها على ما قيل : إنه سبحانه بعد أن حكى عن المسلمين ما حكى ورد عليهم بما رد نقل عن الكفار ما رده عليهم أيضا وبين المحكيين مناسبة من حيث اشتمالها على إسناد ما يكره إلى بعض الأمور وكون الكراهة له بسبب ذلك وهو كما ترى.
وفي الكشف أن جملة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) إلخ معطوفة على جملة قوله تعالى : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) ، (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ) دلالة على تحقق التبطئة والتثبيط ، أما دلالة الأولتين فلا خفاء بهما ، وأما الثانية فلأنهم إذا اعتقدوا في الداعي إلى الجهاد صلىاللهعليهوسلم ذلك الاعتقاد قطعوا أن في اتباعه ـ لا سيما فيما يجر إلى ما عدوه سيئة ـ الخبال والفساد ، ولهذا قلب الله عليهم في قوله سبحانه (فَمِنْ نَفْسِكَ) ليصير ذلك كافا لهم عن التثبيط إلى التنشيط ، وأردفه ذكر ما هم فيه من التعكيس في شأن من هو رحمة مرسلة للناس كافة ، وأكد أمر اتباعه بأن جعل طاعته صلىاللهعليهوسلم طاعة الله تعالى