مع ما أمده به من التهديد البالغ المضمن في قوله سبحانه : (فَمَنْ تَوَلَّى) ثم قال ـ ولا يخفى أن ما وقع بين المعطوفين ليس بأجنبي ـ وأن (فَلْيُقاتِلْ) شديد التعلق بسابقه ، ولما لزم من هذا النسق تقسيم المرسل إليهم إلى كافر مبطئ ومؤمن قوي وضعيف استأنف تقسيمهم مرة أخرى في قوله سبحانه الآتي : و (يَقُولُونَ) أي الناس المرسل إليهم إلى مبيت هو الأول ومذيع هو الثالث ، ومن يرجع إليه هو الثاني فهذا وجه النظم والارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة انتهى ، ولا يخلو عن حسن وليس بمتعين كما لا يخفى.
هذا ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على ما من قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ) وجماعة على ـ لام الجر ـ وتعقب ذلك السمين بأنه ينبغي أن لا يجوز كلا الوقفين إذ الأول وقف على المبتدأ دون خبره ، والثاني على الجار دون مجروره ، وقرأ أبيّ وابن مسعود وابن عباس (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وأنا كتبتها عليك (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) بيان لجلالة منصبه صلىاللهعليهوسلم ومكانته عند ربه سبحانه بعد الذب عنه بأتم وجه ، وفيه رد أيضا لمن زعم اختصاص رسالته عليه الصلاة والسلام بالعرب فتعريف ـ الناس للاستغراق ، والجار متعلق : ب (رَسُولاً) قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم أي مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما زعموا ، و (رَسُولاً) حال مؤكدة لعاملها ، وجوز أن يتعلق الجار بما عنده ، وأن يتعلق بمحذوف وقع حالا من (رَسُولاً) وجوز أيضا أن يكون (رَسُولاً) مفعولا مطلقا إما على أنه مصدر كما في قوله :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم |
|
بشيء ولا أرسلتهم برسول |
وإما على أن الصفة قد تستعمل بمعنى المصدر مفعولا مطلقا كما استعمل الشاعر خارجا بمعنى خروجا في قوله :
على حلفة لا أشتم الدهر مسلما |
|
ولا خارجا من فيّ زور كلام |
حيث أراد كما قال سيبويه : ولا يخرج خروجا (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على رسالتك ، أو على صدقك في جميع ما تدعيه حيث نصب المعجزات ، وأنزل الآيات البينات ، وقيل : المعنى كفى الله تعالى شهيدا على عباده بما يعملون من خير أو شر ، والالتفات لتربية المهابة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) بيان لأحكام رسالته صلىاللهعليهوسلم إثر بيان تحققها ، وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو الحق سبحانه ، والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهي فليست الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه.
وفي بعض الآثار عن مقاتل «أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يقول : من أحبني فقد أحب الله تعالى ومن أطاعني فقد أطاع الله تعالى فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك ، وهو نهى أن يعبد غير الله تعالى ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى عليهالسلام؟ فنزلت» فالمراد «بالرسول» نبيناصلىاللهعليهوسلم ، والتعبير عنه بذلك ووضعه موضع المضمر للإشعار بالعلية ، وقيل : المراد به الجنس ويدخل فيه نبيناصلىاللهعليهوسلم دخولا أوليا ، ويأباه تخصيص الخطاب في قوله تعالى :
(وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) وجعله من باب الخطاب لغير معين خلاف الظاهر ، و «من» شرطية وجواب الشرط محذوف ، والمذكور تعليل له قائم مقامه أي ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه لأنا إنما أرسلناك رسولا مبلغا لا حفيظا مهيمنا تحفظ أعمالهم عليهم وتحاسبهم عليها ، ونفى ـ كما قيل ـ كونه حفيظا أي مبالغا في الحفظ دون كونه حافظا لأن الرسالة لا تنفك عن الحفظ لأن تبليغ الأحكام نوع حفظ عن المعاصي والآثام ، وانتصاب الوصف على الحالية من الكاف ، وجعله مفعولا ثانيا لأرسلنا لتضمينه معنى جعلنا مما لا حاجة إليه ، وعليهم