البلادة ـ وفيه نظر ـ وبعضهم إلى جعل الاستثناء مفرغا من المصدر فما بعد (إِلَّا) منصوب على أنه مفعول مطلق أي لاتبعتموه كل اتباع إلا اتباعا قليلا بأن تبقوا على إجراء الكفر وآثاره إلا البقاء القليل النادر بالنسبة إلى البعض ، وذلك قد يكون بمجرد الطبع والعادة ، وأحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق عند الإمام ما ذكره أبو مسلم ، وأيد التخصيص فيما ذهب إليه الأنباري بأن قوله تعالى : و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ) إلخ ، وقوله سبحانه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يشهدان له ، وفي الذي بعده بأن قوله عزوجل : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) [النساء : ٨٣] إلخ ، وقوله جل وعلا : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) يشهد له ، وأنت تعلم أن قرينة التخصيص بهما غير ظاهرة ، والفاء في هذه الآية واقعة في جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أي إذا كان الأمر كما حكي من عدم طاعة المنافقين وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا.
ونقل الطبرسي في اتصال الآية قولين : أحدهما أنها متصلة بقوله تعالى : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) والمعنى فإن أردت الأجر العظيم فقاتل. ونقل عن الزجاج وثانيهما أنها متصلة بقوله عزوجل : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) والمعنى إن لم يقاتلوا في سبيل الله فقاتل أنت وحدك ، وقيل : هي متصلة بقوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) ومعنى (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) لا تكلف إلا فعلها إذ لا تكليف بالذوات ، وهو استثناء مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسه من موجبات مباشرته صلىاللهعليهوسلم للقتال وحده ، وفيه دلالة على أن ما فعلوه من التثبيط والتقاعد لا يضره صلىاللهعليهوسلم ولا يؤاخذ به ، وذهب بعض المحققين إلى أن الكلام مجاز أو كناية عن ذلك فلا يرد أنه مأمور بتكليف الناس ، فكيف هذا ولا حاجة إلى ما قيل ، بل في ثبوته فقال : إنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بأن يقاتل وحده أولا ، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه في أهل الردة : أقاتلهم وحدي ولو خالفتني يميني لقاتلتها بشمالي ، وجعل أبو البقاء هذه الجملة في موضع الحال من فاعل ـ قاتل ـ أي فقاتل غير مكلف إلا نفسك ، وقرئ «لا تكلف» بالجزم على أن لا ناهية والفعل مجزوم بها أي لا تكلف أحدا الخروج إلا نفسك ، وقيل : هو مجزوم في جواب الأمر وهو بعيد ، ولا نكلف بالنون على بناء الفاعل فنفسك مفعول ثان بتقدير مضاف ، وليس في موقع المفعول الأول أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك ، وقيل : لا مانع من ذلك على معنى لا نكلف أحدا هذا التكليف إلا نفسك.
والمراد من هذا التكليف مقاتلته وحده (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي حثهم على القتال ورغبهم فيه وعظهم لما أنهم آثمون بالتخلف لفرضه عليهم قبل هذا بسنين ، وأصل التحريض إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به ، فالتفعيل للسلب والإزالة ـ كقذيته وجلدته ـ ولم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره.
(عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ) نكاية (الَّذِينَ كَفَرُوا) ومنهم قريش و (عَسَى) من الله تعالى ـ كما قال الحسن وغيره ـ تحقيق ، وقد فعل سبحانه ما وعد به ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واعدصلىاللهعليهوسلم أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع جماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله سبحانه بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان ، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه ، ولم يكن قتال يومئذ وانصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمن معه سالمين (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) من الذين كفروا (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي تعذيبا ، وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد فعمم ، والمقصود من الجملة التهديد والتشجيع ، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة ، وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة ، وتذكير الخبر لتأكيد التشديد ، وقوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ) أي حظ وافر (مِنْها) أي من ثوابها ، جملة مستأنفة