ضمير (لا يُؤْمِنُونَ قُلْ تَعالَوْا) أمر له صلىاللهعليهوسلم بعد ما ظهر بطلان ما ادعوا أن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات ، وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت فيما تقدم ، وتعال أمر من التعالي والأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم واستعمل استعمال المقيد في المطلق مجازا ، ويحتمل هنا ـ كما قيل ـ أن يكون على الأصل تعريضا لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم تراقوا إلى ذروة العلم وقمة العز.
وقوله سبحانه : (أَتْلُ) جواب الأمر أي إن تأتوني أتل ، و «ما في» قوله تعالى : (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) إما موصولة والعائد محذوف أي أقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أي تحريمه ، والمراد الآية الدالة عليه ، وهي في الاحتمالين في موضع نصب على المفعولية لأتل ، وجوز أن تكون استفهامية فهي في موضع نصب على المفعولية لحرم ، والجملة مفعول «أتل» لأن التلاوة من باب القول فيصح أن تعمل في الجملة بناء على المذهب الكوفي من أنه تحكى الجملة بكل ما تضمن معنى القول وغيرهم يقدر في ذلك قائلا ونحوه.
والمعنى هنا على الاستفهام تعالوا أقل لكم وأبين جواب أي شيء حرم ربكم ، وقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ) متعلق على كل حال بحرم ، وجوز أن يتعلق بأتل ورجح الأول بأنه أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة ، وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ، ولا يضر في ذلك كون المتلو محرما على الكل كما لا يخفى (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي من الإشراك أو شيئا من الأشياء فشيئا يحتمل المصدرية والمفعولية ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إعراب (أَلَّا). وبدأ سبحانه بأمر الشرك لأنه أعظم المحرمات وأكبر الكبائر (وَبِالْوالِدَيْنِ) أي أحسنوا بهما (إِحْساناً) كاملا لا إساءة معه. وعن ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللا لهما ، وثنى الله تعالى بهذا التكليف لأن نعمة الوالدين أعظم النعم على العبد بعد نعمة الله تعالى لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله عزوجل والمؤثر في الظاهر هو الأبوان. وعقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالأولاد لكمال المناسبة فقال سبحانه : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) بالوأد (مِنْ إِمْلاقٍ) من أجل فقر أو من خشيته كما في قوله سبحانه : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] وقيل : الخطاب في كل آية لصنف وليس خطابا واحدا فالمخاطب بقوله سبحانه : (مِنْ إِمْلاقٍ) من ابتلى بالفقر وبقوله تعالى : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل ، ولهذا قدم رزقهم هاهنا في قوله عزوجل (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل : «نحن نرزقهم وإياكم» وهو كلام حسن.
وأيا ما كان فجملة (نَحْنُ) إلخ استئناف مسوق لتعليل النهي وإبطال سببية ما اتخذوه سببا لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لإرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تقدموا على ما نهيتم عنه لذلك.
(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) أي الزنا ، والجمع إما للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر عنه أو للقصد إلى النهي عن الأنواع ولذا أبدل منها قوله سبحانه : (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم ، وروي ذلك عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي ، وقيل : المراد بها المعاصي كلها.
وفي المراد ـ بما ظهر منها وما بطن ـ على هذا أقول تقدمت الإشارة إليها واختار ذلك الإمام وجماعة. ورجح بعض المحققين الأول بأنه الأوفق بنظم المتعاطفات ، ووجه توسيط هذا النهي بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن