عند النوم فيتسع لانتقاش الصور من الداخل فيكون ما يدركه النائم صورا مرتسمة في الحس المشترك وموجودة فيه وهو الرؤيا إلا أن منها ما هو صادق ومنها ما هو كاذب. أما الأولى فهي التي ترد تلك الصور فيها على الحس المشترك من النفس الناطقة ، وبيانه أن صور جميع الحوادث ما كان وما يكون مرتسمة في المبادئ العالية التي يعبر عنها أرباب الشرع بالملائكة ومنطبعة بالنفوس المجردة الفلكية واتصال النفس المجردة بالمجرد لعلة الجنسية أشد من اتصالها بالقوى الجسمانية فمن شأنها أن تتصل بذلك وتنتقش بما فيه إلا أن اشتغالها بالحواس الظاهرة والباطنة واستغراقها بتدبير بدنها يمنعانها عن ذلك الاتصال والانتقاش لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها من الاشتغال بغيره ، فإن الذي لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى الواحد القهار ، ولا يمكن إزالة العائق بالكلية إلا أنه يسكن اشتغالها بالإدراكات الحسية حالة النوم إذ في اليقظة ينتشر الروح إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس حالة الانتشار ويحصل بها الإدراك فتشتغل النفس بتلك الإدراكات ، وأما في النوم الذي هو أخ الموت فينحبس الروح إلى الباطن ويرجع عن الحواس الظاهرة بعد انصبابه إليها فتتعطل فيحصل للنفس أدنى فراغ فتتصل بتلك المبادئ اتصالا روحانيا معنويا وتنتقش ببعض ما فيها مما استعدت هي له كالمرايا إذا حوذي بعضها ببعض فانتقش في بعضها ما يتسع له مما انتقش في البعض الآخر فتدرك النفس مما ارتسم في تلك المبادئ ما يناسبها من أحوالها وأحوال ما يقارنها من الأقارب والأهل والولد والإقليم والبلد ماضيه وآتيه إلا أن هذا الإدراك لعدم تأديه من طرف الحس كلي فتحاكيه القوة المتخيلة التي جبلت محاكية لما يرد عليها بصورة جزئية مثالية خيالية مناسبة إياه فتحاكي ما هو خير بالنسبة إليها في صورة جميلة وما هو شر كذلك في صورة قبيحة هائلة على مراتب مختلفة ووجوه متعددة ومن ثمة قد ترى ذاتها بصفة جميلة صورية ومعنوية من الجمال والعلم والكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات المحمودة ، وقد ترى ذاتها متصفة بأضداد ما ذكر ، وقد ترى تلك الصفات في صورة ما غلبت الصفات عليه ، بل قد ترى أنها نفسها صارت نوعا آخر لغلبة صفاته عليها ، ومتى غلبت عليها الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة ترى صورا جميلة وأشخاصا حميدة كذوي الجمال والعلماء والأولياء والملائكة ، بل قد ترى أنها صارت عالما أو ملكا مثلا ، ومتى غلبت عليها الصفات الذميمة ترى صورا هائلة كصورة غولية أو سبعية ، وكذا رؤية حال من يقاربه من الأهل والولد والإقليم مثلا انها تراها باعتبار اختلاف المراتب والمناسبات على ما هي عليه في المضي أو الحال أو الاستقبال حتى لو اهتمت بمصالح الناس رأتها ولو كانت منجذبة الهمة إلى المعقولات لاحت لها أشياء منها ، فمتى لم يكن اختلاف بين تلك الصورة وبين ما هي مأخوذة منه إلا بالكلية والجزئية كانت الرؤيا غير محتاجة إلى التعبير ، والتجاوز عنها إلى ما يناسبها بوجه من المماثلة أو الضدية التي يقتضيها نحو الإلف والخلق والأسباب السماوية وغير ذلك من وجوه خفية لا يطلع عليها إلا الأفراد من أئمة التعبير ، وإن كانت مخالفة لها لقصور يقع في المتخيلة إما لذاتها أو لعروض دهشة وحيرة لها مما ترى أو لغير ذلك كانت محتاجة إلى التعبير ، وهو أن يرجع المعبر القهقرى مجردا لما يراه النائم عن تلك الصورة التي صورتها المتخيلة إلى أن ينتهي بمرتبة أو مراتب إلى ما تلقته النفس من تلك المبادئ فيكون الواقع ، وقد يتفق سيما إذا كانه الرائي كثير الاهتمام بالرؤيا أن يعبر رؤياه في النوم الذي رآها فيه أو غيره ، فهو إما بتذكره لما كانت الرؤيا حكاية عنه ، وإما بتصوير المتخيلة حكاية رؤياه بحكاية أخرى ، وحينئذ يحتاج إلى تعبيرين.
وأما الثانية فهي تكون لأشياء اما لأن النفس إذا أحست في حال اليقظة بتوسط الآلات الجسمانية بصور جزئية محسوسة أو خيالية وبقيت مخزونة في قوة الخيال فعند النوم الذي يخلص فيه الحس المشترك عما يرد عليه من الحواس الظاهرة ترسم في الحس المشترك ارتسام المحسوسات إما على ما كانت عليها وإما بصور مناسبة لها ، أو لأن النفس أتقنت بواسطة المتخيلة صورة ألفتها فعند النوم تتمثل في الحس المشترك ، أو لأن مزاج الدماغ يتغير فيتغير