شيبتني هود وأخواتها من المفصل والواقعة» وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما اشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لإسراع الشيب إليه صلىاللهعليهوسلم ، وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي علي الشتري قال : رأيت النبي صلىاللهعليهوسلم في المنام : فقلت يا رسول الله روي عنك أنك قلت : «شيبتني هود» قال : نعم. فقلت : ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهمالسلام وهلاك الأمم؟ قال : لا ولكن قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢] وهذا هو الذي اعتمد عليه بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وبينه بما بينه ، والحق أن الذي شيبه صلىاللهعليهوسلم ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره ما عظم أمره على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع ، وهذا هو المنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله صلىاللهعليهوسلم أصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل اكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام.
ودعوى أن المتبادر لهم رضي الله تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلك لم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم يسألوا عما شيبه عليه الصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم دون ذلك الأمر؟ وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي أخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه صلىاللهعليهوسلم ، وكون ما ذكر مشيبا مفهوما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله ، وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي ، واتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها ، وسيأتي في آخر السورة إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٥)
(الر) اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبي والسدي ، وقيل : إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه ، وقيل : هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادئ كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة ، وقيل وقيل ، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل ، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسما للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة ـ بالر ـ وقيل : محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ ، وقوله سبحانه : (كِتابٌ) خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدإ محذوف على غيره من الوجوه ، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي نظمت نظما محكما لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالإحكام مستعار من إحكام البناء بمعنى إتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها