هذا قوله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأنعام : ١٦٠] بناء على أن المراد بمثل السيئة ما تقتضيه من العقاب عند الله تعالى فلعل ما فعلوه من السيئات يقتضي تلك المضاعفة فتكون هي المثل كما أن مثل سيئة الكفر هو الخلود في النار ، وقيل : إن المضاعفة لافترائهم وكذبهم على ربهم وصدّهم عن سبيل الله تعالى وبغيهم إياها العوج وكفرهم بالآخرة ـ على ما يدل عليه نسبة مضاعفة العذاب إلى هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات ـ وبه جمع بين ما هنا ؛ وقوله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) [الأنعام : ١٠٦] الآية ، ولعل التعليل بما تفيده الجملة على هذا لأنه الأصل الأصيل لسائر قبائحهم ومعاصيهم.
وزعم بعضهم أن المضاعفة لحفظ الأصل إذ لو لا ذلك لارتفع ولم يبق عذابا للألف بطول الأمد وفيه ما فيه ، وقيل : إن الجملة بيان لما نفي من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل عن الولاية وقوله سبحانه : (يُضاعَفُ) إلخ اعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر بسوء العاقبة ، وفيه أنه مخالف للسياق ومستلزم تفكيك الضمائر ، وجوز أبو البقاء أن تكون (ما) مصدرية ظرفية أي يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وإبصارهم ، والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد ، وأجاز الفراء أن تكون مصدرية وحذف حرف الجر منها كما يحذف من أن وأن ، وفيه بعد لفظا ومعنى (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك القبائح.
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى شأنه ، وقيل : (خَسِرُوا) بسبب تبديلهم الهداية بالضلالة والآخرة بالدنيا وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرئاسة.
وفي البحر أنه على حذف مضاف أي (خَسِرُوا) سعادة أنفسهم وراحتها فإن أنفسهم باقية معذبة.
وتعقب بأن إبقاءه على ظاهره أولى لأن البقاء في العذاب كلا بقاء (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة وشفاعتها (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي لا أحد أبين أو أكثر خسرانا منهم ، فأفعل للزيادة إما في الكم أو الكيف ، وتعريف المسند بلام الجنس لإفادة الحصر ، وإن جعل (هُمُ) ضمير فصل أفاد تأكيد الاختصاص ، وإن جعل مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر أن أفاد تأكيد الحكم ، وفي (لا جَرَمَ) أقوال : ففي البحر عن الزجاج أن ـ لا ـ نافية ومنفيها محذوف أي لا ينفعهم فعلهم مثلا ، و ـ جرم ـ فعل ماض بمعنى كسب يقال : جرمت الذنب إذا كسبته ؛ وقال الشاعر :
نصبنا رأسه في جذع نخل |
|
بما «جرمت» يداه وما اعتدينا |
وما بعده مفعوله ، وفاعله ما دل عليه الكلام أي كسب ذلك أظهرية أو أكثرية خسرانهم ، وحكي هذا عن الأزهري ، ونقل عن سيبويه أن ـ لا ـ نافية حسبما نقل عن الزجاج ، و ـ جرم ـ فعل ماض بمعنى حق ، وما بعد فاعله كأنه قيل : لا ينفعهم ذلك الفعل حق (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ) إلخ.
وذكر أبو حيان أن مذهب سيبويه وكذا الخليل أيضا كون مجموع (لا جَرَمَ) بمعنى حق وأن ما بعده رفع به على الفاعلية ، وقيل : (لا) صلة و (جَرَمَ) فعل بمعنى كسب أو حق ، وعن الكسائي أن (لا) نافية و (جَرَمَ) اسمها مبني معها على الفتح نحو لا رجل ، والمعنى لا ضد ولا منع ، والظاهر أن الخبر على هذا محذوف وحذف حرف الجر من أن ويقدر حسبما يقتضيه المعنى ، وقيل : إن (جَرَمَ) اسم (لا) ومعناه القطع من جرمت الشيء أي قطعته ، والمعنى لا قطع لثبوت أكثرية خسرانهم أي إن ذلك لا ينقطع في وقت فيكون خلافه.
ونقل السيرافي عن الزجاج أن (لا جَرَمَ) في الأصل بمعنى لا يدخلنكم في الجرم أي الإثم كإثمه أي أدخله في الإثم ، ثم كثر استعماله حتى صار بمعنى لا بد ، ونقل هذا المعنى عن الفراء ، وفي البحر أن (جَرَمَ) عليه اسم