وروى ابن إسحاق في سيرته عن العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من خبر طويل «أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لأبي طالب في مرض موته وقد طمع فيه : أي عم فأنت فقلها يعني لا إله إلا الله أستحل بها لك الشفاعة يوم القيامة ـ وحرض عليه عليه الصلاة والسلام بذلك ـ فقال : والله يا ابن أخي لو لا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها ولا أقولها إلا لأسرك بها فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بإذنه فقال : يا ابن أخي لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال له صلىاللهعليهوسلم لم أسمع» واحتج بهذا ونحوه من أبياته المتضمنة للإقرار بحقية ما جاء به صلىاللهعليهوسلم وشدة حنوه عليه ونصرته له صلىاللهعليهوسلم الشيعة الذاهبون إلى موته مؤمنا وقالوا : إنه المروي عن أهل البيت وأهل البيت أدرى ، وأنت تعلم قوة دليل الجماعة فالاعتماد على ما روي عن العباس دونه مما تضحك منه الثكلى ، والأبيات على انقطاع أسانيدها ليس فيها النطق بالشهادتين وهو مدار فلك الإيمان ، وشدة الحنو والنصرة مما لا ينكره أحد إلا أنها بمعزل عما نحن فيه ، وأخبار الشيعة عن أهل البيت أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. نعم لا ينبغي للمؤمن الخوض فيه كالخوض في سائر كفار قريش من أبي جهل وأضرابه فإن له مزية عليهم بما كان يصنعه مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم من محاسن الأفعال ، وقد روي نفع ذلك له في الآخرة أفلا ينفعه في الدنيا في الكف عنه وعدم معاملته معاملة غيره من الكفار. فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال وقد ذكر عنده عمه : «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار» وجاء في رواية أنه قيل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك؟ فقال : نعم وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح من نار. وسبه عندي مذموم جدا ولا سيما إذا كان فيه إيذاء لبعض العلويين إذ قد ورد «لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات ـ ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
وزعم بعضهم أن الآية نزلت في غير ذلك. فقد أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن مسعود قال : «خرج النبي صلىاللهعليهوسلم يوما إلى المقابر فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فصلى ركعتين فقام إليه عمر فدعاه ثم دعانا فقال : ما أبكاكم؟ قلنا : بكينا لبكائك قال : إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل على (ما كانَ لِلنَّبِيِ) إلخ فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذاك الذي أبكاني» ولا يخفى أن الصحيح في سبب النزول هو الأول. نعم خبر الاستئذان في الاستغفار لأمه عليه الصلاة والسلام وعدم الإذن جاء في رواية صحيحة لكن ليس فيها أن ذلك سبب النزول. فقد أخرج مسلم ، وأحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والنسائي عن أبي هريرة قال : «أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال عليه الصلاة والسلام : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت» واستدل بعضهم بهذا الخبر ونحوه على أن أمه عليه الصلاة والسلام ممن لا يستغفر له ، وفي ذلك نزاع شهير بين العلماء ، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيق الحق فيه إن شاء الله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) آزر بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي) [الشعراء : ٨٦] أي بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه كما يلوح به تعليله بقوله : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٨٦] والجملة استئناف لتقرير ما سبق ودفع ما يتراءى بحسب الظاهر من المخالفة ، وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال : لما مات أبو طالب قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : رحمك الله وغفر لك لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله تعالى فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون فأنزل الله تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية فقالوا : قد استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل سبحانه (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ) وقرأ طلحة «وما استغفر»