يقال : يكفي الاشتراك في التوبة والمعية فيها مع قطع النظر عن المثوب عنه ، وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يستغفر الله تعالى في اليوم أكثر من سبعين مرة ، واستظهر ذلك الجلبي ، و (مَنْ) على ما اختاره أبو حيان ، وجماعة عطف على الضمير المستكن في (فَاسْتَقِمْ) وأغنى الفصل بالجار والمجرور عن تأكيده بضمير منفصل لحصول الغرض به ، وفي الكلام تغليب لحكم الخطاب على الغيبة في لفظ الأمر ، واختار كثير أنه فاعل لفعل محذوف أي وليستقم من إلخ لأن الأمر لا يرفع الظاهر ، وحينئذ فالجملة معطوفة على الجملة الأولى ، ومن ذهب إلى الأول رجحه بعدم احتياجه إلى التقدير ودفع المحذور بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع.
وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على أنه مفعول معه ، والمعنى استقم مصاحبا لمن تاب ، قيل : وهو في المعنى أتم وإن كان في اللفظ نوع نبوة عنه.
وقيل : إنه مبتدأ والخبر محذوف أي فليستقم ، وجوز كون الخبر (مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) أي لا تنحرفوا عما حدّ لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم ، وسمي ذلك طغيانا وهو مجاوزة الحدّ تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعن ابن عباس أن المعنى لا تطغوا في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم تؤمروا به.
وقال ابن زيد : لا تعصوا ربكم ، وقال مقاتل : لا تخلطوا التوحيد بالشرك ، ولعل الأول أولى.
(إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي السابقين كأنه قيل : استقيموا ولا تطغوا لأن الله تعالى ناظر لأعمالكم فيجازيكم عليها ، وقيل : إنه تتميم للأمر بالاستقامة ، والأول أحسن وأتم فائدة ، وقرأ الحسن ، والأعمش ـ يعملون ـ بياء الغيبة ، وروي ذلك عن عيسى الثقفي أيضا ، وفي الآية ـ على ما قال غير واحد ـ دليل على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد التشهي وإعمال العقل الصرف فإن ذلك طغيان وضلال ، وأما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد ، وقال الإمام : وعندي لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دلّ عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) والعمل بالقياس انحراف عنه ، ولذا لما ورد القرآن بالأمر بالوضوء وجيء بالأعضاء مرتبة في اللفظ وجب الترتيب فيها ، ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل ، والبقر من البقر وجب اعتبارها ، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به كل ذلك للأمر بالاستقامة كما أمر انتهى.
وأنت تعلم أن إيجاب الترتيب في الوضوء لذلك ليس بشيء ويلزمه أن يوجب الترتيب في الأوامر المتعاطفة بالواو مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣ وغيرها] وكذا في نحو (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥] بعين ما ذكر في الوضوء وهو كما ترى ، وكأنه عفا الله تعالى عنه يجزم بأن الحنفية الذين لا يوجبون الترتيب في أعمال الوضوء طاغون خارجون عما حدّ الله تعالى لا احتمال للقول بأنهم مستقيمون وهو من الظلم بمكان (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل ، والمراد بهم المشركون كما روى ذلك ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة ، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا ، قيل : ولإرادة ذلك لم يقل إلى الظالمين ؛ ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي ، وكذا القيام لهم ونحو ذلك ، ومدار النهي على الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين ، وقيل : إن ذلك للمبالغة في النهي