أي بعد (ما يُنْفِقُ) أي يصرفه في سبيل الله تعالى ويتصدق به كما يقتضيه المقام (مَغْرَماً) أي غرامة وخسرانا من الغرام بمعنى الهلاك ، وقيل : من الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير جناية ، وأصله من الملازمة ومنه قيل لكل من المتداينين غريم ، وإنما أعدوه كذلك لأنهم لا ينفقونه احتسابا ورجاء لثواب الله تعالى ليكون لهم مغنما وإنما ينفقونه تقية ورئاء الناس فيكون غرامة محضة ، وما في صيغة اتخاذ من معنى الاختيار والانتفاع بما يتخذ إنما هو باعتبار غرض المنفق من الرياء والتقية لا باعتبار ذات النفقة أعني كونها غرامة (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي ينتظر بكم نوب الدهر ومصائبه التي تحيط بالمرء لينقلب بها أمركم ويتبدل بها حالكم فيتخلص مما ابتلي به (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به ، وهو اعتراض بين كلامين كما في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) [المائدة : ٦٤] إلخ ، وجوز أن تكون الجملة إخبارا عن وقوع ما يتربصون به عليهم ، والدائرة اسم للنائبة وهي في الأصل مصدر كالعافية والكاذبة أو اسم فاعل من دار يدور وقد تقدم تمام الكلام عليها ، و (السَّوْءِ) في الأصل مصدر أيضا ثم أطلق على كل ضرر وشر وقد كان وصفا للدائرة ثم أضيفت إليه فالإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته كما في قولك : رجل صدق وفيه من المبالغة ما فيه ، وعلى ذلك قوله تعالى : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) [مريم : ٢٨] وقيل : معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فالإضافة للبيان والتأكيد كما قالوا : شمس النهار ولحيا رأسه. وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو «السّوء» هنا وفي ثانية الفتح بالضم وهو حينئذ اسم بمعنى العذاب وليس بمصدر كالمفتوح وبذلك فرق الفراء بينهما : وقال أبو البقاء : السوء بالضم الضرر وهو مصدر في الحقيقة يقال : سؤته سوءا وسماءة ومسائية وبالفتح الفساد والرداءة ، وكأنه يقول بمصدرية كل منهما في الحقيقة كما فهمه الشهاب من كلامه ، وقال مكي : المفتوح معناه الفساد والمضموم معناه الهزيمة والضرر وظاهره كما قيل إنهما اسمان (وَاللهُ سَمِيعٌ) بمقالاتهم الشنيعة عند الانفاق (عَلِيمٌ) بنياتهم الفاسدة التي من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر ، وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى (وَمِنَ الْأَعْرابِ) أي من جنسهم على الإطلاق (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) على الوجه المأمور به (وَيَتَّخِذُ) على وجه الاصطفاء والاختيار (ما يُنْفِقُ) في سبيل الله تعالى (قُرُباتٍ) جمع قربة بمعنى التقرب ، وهو مفعول ثان ليتخذ ، والمراد اتخاذ ذلك سببا للتقرب على التجوز في النسبة أو التقدير ، وقد تطلق القربة على ما يتقرب به والأول اختيار الجمهور ، والجمع باعتبار الأنواع والأفراد ، وقوله سبحانه : (عِنْدَ اللهِ) صفة (قُرُباتٍ) أو ظرف ليتخذ.
وجوز أبو البقاء كونه ظرفا لقربات على معنى مقربات عند الله تعالى ، وقوله تعالى : (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) عطف على (قُرُباتٍ) أي وسببا لدعائه عليه الصلاة والسلام فإنه صلىاللهعليهوسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ، ولذلك يسن للمتصدق عليه أن يدعو للمتصدق عنه أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه ، فقد قالوا : لا يصلى على غير الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إلا بالتبع لأن في الصلاة من التعظيم ما ليس في غيرها من الدعوات وهي لزيادة الرحمة والقرب من الله تعالى فلا تليق بمن يتصور منه الخطايا والذنوب ولاقت عليه تبعا لما في ذلك من تعظيم المتبوع ، واختلف هل هي مكروهة تحريما أو تنزيها أو خلاف الأولى؟ صحح النووي في الأذكار الثاني ، لكن في خطبة شرح الأشباه للبيري من صلى على غيرهم أثم وكره وهو الصحيح. وما رواه الستة غير الترمذي من قوله صلىاللهعليهوسلم : «اللهم صل على آل أبي أوفى» لا يقوم حجة على المانع لأن ذلك كما في المستصفى حقه عليه الصلاة والسلام فله أن يتفضل به على من يشاء ابتداء وليس الغير كذلك. وأما السلام فنقل اللقاني في شرح جوهرة التوحيد عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ، ولا يفرد به غير الأنبياء والملائكة عليهمالسلام فلا يقال : عليّ عليهالسلام بل يقال : رضي الله تعالى عنه ، وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر