على الأول حقيقة وعلى الثاني كناية لأن عدم غشيان ذلك لازم لعدم غشيان ما يوجبهما فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم ، ورجح هذا بأنه أمدح ، والمقصود بيان خلوص نعيمهم من شوائب المكاره إثر بيان ما من سبحانه به عليهم من النعيم ، وقيل : إن ذكر ذلك لتذكيرهم بما ينقذهم منه فإنهم إذا ذكروا ذلك زاد ابتهاجهم ومسرتهم كما أن أهل النار إذا ذكروا ما فاتهم من النعيم ازداد غمهم وحسرتهم ، وقيل : الغرض إدخال السرور عليهم بتذكير حال أعدائهم أهل النار فإن الإنسان متى علم أن عدوه في الهوان وسوء الحال ازداد سرورا ، وقد شاهدنا من يكتفي بمضرة عدوه عن حصول المنفعة له بل من يسره ضرر عدوه وإن تضرر هو ، وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم وللتشويق إلى المؤخر ولأن في الفاعل ضرب تفصيل (أُولئِكَ) أي المذكورون باعتبار اتصافهم بما تقدم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون بلا زوال ويلزم ذلك عدم زوال نعيمها.
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) أي الشرك والمعاصي ، وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله سبحانه : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) والباء متعلقة بجزاء وهو مصدر المبني للمفعول لا اسم للعوض كما في بعض الأوجه الآتية على ما قيل أي جزاء الذين كسبوا السيئات أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها على معنى عدم الزيادة بمقتضى العدل وإلا فلا مانع عن العفو بمقتضى الكرم لكن ذلك في غير الشرك ويجوز أن يكون جزاء سيئة بمثلها جملة من مبتدأ وخبر هي خبر المبتدأ وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف لكن العائد محذوف أي جزاء سيئة منهم بمثلها على حد ـ السمن منوان بدرهم ..
وأجاز أبو الفتح أن يكون جزاء مبتدأ محذوف الخبر أي لهم جزاء سيئة بمثلها وحذف لهم لقرينة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) والجملة خبر (الَّذِينَ كَسَبُوا) وحينئذ لا حاجة إلى تقدير عائد كما لا حاجة إلى تقدير مضاف ، وجوز غير واحد أن يكون (الَّذِينَ) عطفا على الذين المجرور الذي هو مع جاره خبر وجزاء سيئة معطوف على الحسنى الذي هو المبتدأ ، وفي ذلك العطف على معمولي عاملين مختلفين وفيه مذاهب المنع مطلقا وهو مذهب سيبويه والجواز مطلقا وهو مذهب القراء والتفصيل بين أن يتقدم المجرور نحو في الدار زيد والحجرة عمرو فيجوز أو لا فيمتنع ، والمانعون يحملون نحو هذا المثال على إضمار الجار ويجعلونه مطردا كقوله :
أكل امرئ تحسبين امرأ |
|
ونار توقد بالليل نارا |
وقيل : هو مبتدأ والخبر جملة (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أو (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) أو (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) وما في البين اعتراض ، وفي تعدد الاعتراض خلاف بين النحويين و (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) حينئذ مبتدأ و (بِمِثْلِها) متعلق به والخبر محذوف أي واقع أو (بِمِثْلِها) هو الخبر على أن الباء زائدة أو الجار والمجرور في موضع الخبر على أن الباء غير زائدة ، والأولى تقدير المتعلق خاصا كمقدر ويصح تقديره عاما ، والقول بأنه لا معنى له حاصل وهم ظاهر ، وأيا ما كان لا دلالة في الآية على أن الزيادة هي الفضل دون الرؤية وقد علمت أن تفسيرها بذلك هو المأثور عن النبي صلىاللهعليهوسلم وجملة من السلف الصالح فلا ينبغي العدول عنه لما يتراءى منه خلافه لا سيما وقد أتى الإمام وغيره بدلائل جمة على أن المراد بها ذلك ولم يؤت بالآيتين على أسلوب واحد لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائي والتباين ، وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو بسوء صنيعهم وجنايتهم على أنفسهم (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي هوان عظيم ، فالتنوين هنا للتفخيم على عكس التنوين فيما قبل كما أشرنا إليه ، وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم.
وقرئ «يرهقهم» بالياء التحتانية لكون الفاعل ظاهرا وتأنيثه غير حقيقي ، وقيل : التذكير باعتبار أن المراد من