في المرة الأخرى فضلا عن إيفائه (وَلا تَقْرَبُونِ) أي لا تقربوني بدخول بلادي فضلا عن الإحسان في الإنزال والضيافة ، وهو إما نهي أو نفي معطوف على التقديرين على الجزاء ، وقيل : هو على الأول استئناف لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر. وأجيب بأن العطف مغتفر فيه لأن النهي يقع جزاء ، وفيه دليل على أنهم كانوا على نية الامتيار مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوما له عليهالسلام ، والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي وإلا فالبر يقتضي أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكن الله سبحانه أراد تكميل أجر يعقوب في محنته وهو الفعال لما يريد في خليقته (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنخادعه ونستميله برفق ونجتهد في ذلك ، وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) أي إنا لقادرون على ذلك لا نتعايا به أو إنا لفاعلون ذلك لا محالة ولا نفرط فيه ولا نتوانى ، والجملة على الأول تذييل يؤكد مضمون الجملة الأولى ويحقق حصول الموعود من إطلاق المسبب ـ أعني الفعل ـ على السبب ـ أعني القدرة ، وعلى الثاني هي تحقيق للوفاء بالوعد وليس فيه ما يدل على أن الموعود يحصل أولا.
(وَقالَ) يوسف عليهالسلام (لِفِتْيانِهِ) لغلمانه الكيالين كما قال قتادة وغيره أو لأعوانه الموظفين لخدمته كما قيل ، وهو جمع فتى أو اسم جمع له على قول وليس بشيء ، وقرأ أكثر السبعة «لفتيته» وهو جمع قلة له ، ورجحت القراءة الأولى بأنها أوفق بقوله : (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) فإن الرحال فيه جمع كثرة ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد فينبغي أن يكون في مقابلة صيغة جمع الكثرة ، وعلى القراءة الأخرى يستعار أحد الجمعين للآخر. روي أنه عليهالسلام وكل بكل رحل رجلا يعني فيه بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالا وأدما ؛ وأصل البضاعة قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة والمراد بها هنا ثمن ما اشتروه.
والرحل ما على ظهر المركوب من متاع الراكب وغيره كما في البحر ، وقال الراغب : هو ما يوضع على البعير للركوب ثم يعبر به تارة عن البعير وأخرى عما يجلس عليه في المنزل ويجمع في القلة على أرحلة ، والظاهر أن هذا الأمر كان بعد تجهيزهم ، وقيل : قبله ففيه تقديم وتأخير ولا حاجة إليه ، وإنما فعل عليهالسلام ذلك تفضلا عليهم وخوفا أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيهم كما يؤذن به قوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) أي يعرفون حق ردها والتكرم بذلك ـ فلعل ـ على ظاهرها وفي الكلام مضاف مقدر ، ويحتمل أن يكون المعنى لكي يعرفوها فلا يحتاج إلى تقدير وهو ظاهر التعلق بقوله : (إِذَا انْقَلَبُوا) أي رجعوا (إِلى أَهْلِهِمْ) فإن معرفتهم لها مقيدة بالرجوع وتفريغ الأوعية قطعا ، وأما معرفة حق التكرم في ردها وإن كانت في ذاتها غير مقيدة بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قيدت به (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) حسبما طلبت منهم ، فإن التفضل بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعواز البضاعة من أقوى الدواعي إلى الرجوع ، وقيل : إنما فعله عليهالسلام لما أنه لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا وهو الكريم ابن الكريم وهو كلام حق في نفسه ولكن يأباه التعليل المذكور ، ومثله في هذا ما زعمه ابن عطية من وجوب صلتهم وجبرهم عليه عليهالسلام في تلك الشدة إذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة ، وأغرب منه ما قيل : إنه عليهالسلام فعل ذلك توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة ، ووجه بعضهم علية الجعل المذكور للرجوع بأن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة لاحتمال أنه لم يقع ذلك قصدا أو قصدا للتجربة ـ فيرجعون ـ على هذا إما لازم وإما متعد ، والمعنى يرجعونها أي يردونها ، وفيه أن هيئة التعبية تنادي بأن ذلك بطريق التفضل فاحتمال غيره في غاية البعد ، ألا ترى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلا على التفضلات السابقة كما ستحيط به خبرا إن شاء الله تعالى.
(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي حكم بمنعه بعد اليوم إن لم نذهب بأخينا بنيامين