(قالُوا) استئناف بياني كأنه قيل : ما ذا قالوا حينئذ؟ فقيل : قالوا لأبيهم ولعله كان حاضرا عند الفتح (يا أَبانا ما نَبْغِي) إذا فسر البغي بمعنى الطلب كما ذهب إليه جماعة ـ فما ـ يحتمل أن تكون استفهامية منصوبة المحل على أنها مفعول مقدم ـ لنبغي ـ فالمعنى ما ذا نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الداعي إلى امتثال أمره والمراجعة إليه في الحوائج وقد كانوا أخبروه بذلك على ما روي أنهم قالوا له عليهالسلام : إنا قدمنا على خير رجل وأنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته ، وقوله تعالى : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته كأنهم قالوا : كيف لا وهذه بضاعتنا ردها إلينا تفضلا من حيث لا ندري بعد ما من علينا بما يثقل الكواهل من المنن العظام وهل من مزيد على هذا فنطلبه ، ومرادهم به أن ذلك كاف في استيجاب الامتثال لأمره والالتجاء إليه في استجلاب المزيد ، ولم يريدوا أنه كاف مطلقا فينبغي التقاعد عن طلب نظائره وهو ظاهر.
وجملة (رُدَّتْ) في موضع الحال من (بِضاعَتُنا) بتقدير قد عند من يرى وجوبها في أمثال ذلك والعامل معنى الإشارة ، وجعلها خبر (هذِهِ) و ـ بضاعتنا ـ بيانا له ليس بشيء ، وإيثار صيغة البناء للمفعول قيل : للإيذان بكمال الإحسان الناشئ عن كمال الإخفاء المفهوم من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعروا به ولا بفاعله ، وقيل : للإيذان بتعين الفاعل وفيه من مدحه أيضا ما فيه ، وقوله تعالى : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب لهم الميرة ، وهي بكسر الميم وسكون الياء طعام يمتاره الإنسان أي يجلبه من بلد إلى بلد ، وحاصله نجلب لهم الطعام من عند الملك معطوف على مقدر ينسحب عليه البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) من المكاره حسبما وعدنا ، وتفرعه على ما تقدم باعتبار دلالته على إحسان الملك فإنه مما يعين على الحفظ (وَنَزْدادُ) أي بواسطته ولذلك وسط الاخبار به بين الأصل والمزيد (كَيْلَ بَعِيرٍ) أي وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا على قضية التقسيط المعهود من الملك ، والبعير في المشهور مقابل الناقة ، وقد يطلق عليها وتكسر في لغة باؤه ويجمع على أبعرة وبعران وأباعر ، وعن مجاهد تفسيره هنا بالحمار وذكر أن بعض العرب يقول للحمار بعير وهو شاذ.
وقوله تعالى (ذلِكَ كَيْلٌ) أي مكيل (يَسِيرٌ) أي قليل لا يقوم بأودنا يحتمل أن يكون اشارة إلى ما كيل لهم أولا ، والجملة استئناف جيء بها للجواب عما عسى أن يقال لهم : قد صدقتم فيما قلتم ولكن ما الحاجة إلى التزام ذلك وقد جئتم بالطعام؟ فكأنهم قالوا : إن ما جئنا به غير كاف لنا فلا بد من الرجوع مرة أخرى وأخذ مثل ذلك مع زيادة ولا يكون ذلك بدون استصحاب أخينا ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما تحمله أباعرهم ، والجملة استئناف وقع تعليلا لما سبق من الازدياد كأنه قيل : أي حاجة إلى الازدياد؟ فقيل : إن ما تحمله أباعرنا قليل لا يكفينا ، وقيل : المعنى أن ذلك الكيل الزائد قليل لا يضايقنا فيه الملك أو سهل عليه لا يتعاظمه ، وكأن الجملة على هذا استئناف جيء به لدفع ما يقال : لعل الملك لا يعطيكم فوق العشرة شيئا ويرى ذلك كثيرا أو صعبا عليه وهو كما ترى ، وجوز أن يكون ذلك إشارة إلى الكيل الذي هم بصدده وتضمنه كلامهم وهو المنضم إليه كيل البعير الحاصل بسبب أخيهم المتعهد بحفظه كأنهم لما ذكروا ما ذكروا صرحوا بما يفهم منه مبالغة في استنزال أبيهم فقالوا : ذلك الذي نحن بصدده كيل سهل لا مشقة فيه ولا محنة تتبعه ، وقد يبقى الكيل على معناه المصدري والكلام على هذا الطراز إلا يسيرا.
وجوز بعضهم كون ذلك من كلام يعقوب عليهالسلام والإشارة إلى كيل البعير أن كيل بعير واحد شيء قليل لا يخاطر لمثله بالولد ، وكان الظاهر على هذا ذكره مع كلامه السابق أو اللاحق ، وقيل : معنى (ما نَبْغِي) أي مطلب نطلب من مهماتنا ، والجمل الواقعة بعده توضيح وبيان لما يشعر به الإنكار من كونهم فائزين ببعض المطالب أو