من الآيات العظام الباهرة ليست عندهم بآية حتى اقترحوا ما لا تقتضيه الحكمة من الآيات كسقوط السماء عليهم كسفا وسير الأخشبين وجعل البطاح محارث ومفترسا كالأردن وإحياء قصي لهم إلى غير ذلك (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها ، وهو كلام جار مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها صلىاللهعليهوسلم لم يؤتها نبي قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها كان ذلك موضعا للتعجب والإنكار ، وكان الظاهر أن يقال في الجواب : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على الكفر ونحوه إلا أنه وضع هذا موضعه للإشارة إلى أن المتعجب منه يقول : (إِنَّ اللهَ يُضِلُ) إلخ أي إنه تعالى يخلق فيمن يشاء الضلال بصرف اختياره إلى تحصيله ويدعه منهمكا فيه لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد لسوء استعداده كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد وشدة الشكيمة والغلو في الفساد فلا سبيل له إلا الاهتداء ولو جاءته كل آية. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ) أي إلى جانبه العلي الكبير.
وقال أبو حيان : أي إلى دينه وشرعه سبحانه هداية موصلة إليه لا دلالة مطلقة إلى ما يوصل فإن ذلك غير مختص بالمهتدين وفيه من تشريفهم ما لا يوصف ، وقيل : الضمير للقرآن أو للرسول عليه الصلاة والسلام وهو خلاف الظاهر جدا (مَنْ أَنابَ) أي أقبل إلى الحق وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة وحقيقة الإنابة الرجوع إلى نوبة الخير ، وإيثارها في الصلة على إيراد المشيئة كما في الصلة الأولى على ما قال مولانا شيخ الإسلام للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة ، وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد ، وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية السابقة كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم ، والآية صريحة في مذهب أهل السنة في نسبة الخير والشر إليه عزوجل وأولها المعتزلة فقال أبو علي الجبائي : المعنى يضل من يشاء عن ثوابه ورحمته عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عن الثواب ويهدي إلى جنته من تاب وآمن ، ثم قال : وبهذا تبين أن الهدى هو الثواب من حيث علق بقوله تعالى : (مَنْ أَنابَ) والهدى الذي يفعله سبحانه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه ، وذلك يدل على أنه تعالى يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا اه ولا يخفى ما فيه.
(الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من (مَنْ أَنابَ) بدل كل من كل فإن أريد بالهداية الهداية المستمرة فالأمر ظاهر لظهور كون الإيمان مؤديا إليها ، وإن أريد إحداثها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرهم إلى الإيمان كما قالوا في (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢١] أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمان لا يؤدي إلى الهداية نفسها ، ويجوز أن يكون عطف بيان على ذلك أو منصوبا على المدح أو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) أي تستقر وتسكن (بِذِكْرِ اللهِ) أي بكلامه المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو المروي عن مقاتل ، وإطلاق الذكر على ذلك شائع في الذكر ، ومنه قوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) [الأنبياء : ٥٠] و (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] وسبب اطمئنان قلوبهم بذلك علمهم أن لا آية أعظم ومن ذلك لا يقترحون الآيات التي يقترحها غيرهم ، والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان وتجدده حسب تجدد المنزل من الذكر (أَلا بِذِكْرِ اللهِ) وحده (تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) لله دون غيره من الأمور التي تمل إليها النفوس من الدنيا ويأت ، وإذا أريد سائر المعجزات فالقصر من حيث إنها ليست في إفادة الطمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدها بمثابة القرآن المجيد فإنه معجزة باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كل أحد وتطمئن به القلوب كافة ؛ وفيه إشعار بأن الكفرة لا قلوب لهم وأفئدتهم هواء