بين تلك الأمور وبين غيرها في أن كلا لا يقبل ذلك لأنه العلم إنما تعلق بها على ما هي عليه في نفس الأمر وإلا لكان جهلا وما في نفس الأمر مما لا يتصور فيه التغير والتبدل ، وكيف يتصور تغير زوجية الأربعة مثلا وانقلابها إلى الفردية مع بقاء الأربعة أربعة هذا مما لا يكون أصلا ولا أظنك في مرية من ذلك ، ولا يأبى هذا عموم الأدلة الدالة على أنه ما شاء الله تعالى كان لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم بالشيء تابع لما عليه الشيء في نفس الأمر فهو سبحانه لا يشاء إلا ما عليه الشيء في نفس الأمر ، قيل : ويشير إلى أن ما في العلم لا يتغير قوله سبحانه : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) بناء على أن (أُمُّ الْكِتابِ) هو العلم لأن جميع ما يكتب في صحف الملائكة وغيرها لا يقع حيثما يقع إلا موافقا لما ثبت فيه فهو أم لذلك أي أصل له فكأنه قيل : يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء إثباته مما سطر في الكتب وثابت عنده العلم الأزلي الذي لا يكون شيء إلا على وفق ما فيه ، وتفسير (أُمُّ الْكِتابِ) بعلم الله تعالى مما رواه عبد الرزاق. وابن جرير عن كعب رضي الله تعالى عنه ، والمشهور أنها اللوح المحفوظ قالوا : وهو أصل الكتب إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوب فيه كما هو.
والظاهر أن المراد الذاهب والثابت مما يتعلق بالدنيا (١) لا مما يتعلق بها وبالآخرة أيضا لقيام الدليل العقلي على تناهي الأبعاد مطلقا والنقلي على تناهي اللوح بخصوصه ، فقد جاء أنه من درة بيضاء له دفتان من ياقوت طوله مسيرة خمسمائة عام وامتناع ظرفية المتناهي لغير المتناهي ضروري ، ولعل من يقول بعموم الذاهب والثابت يلتزم القول بالإجمال حيث يتعذر التفصيل. وقد ذهب بعضهم إلى تفسير (أُمُّ الْكِتابِ) بما هو المشهور ، والتزم القول بأن ما فيه لا يتغير وإنما التغير لما في الكتب غيره ، وهذا قائل بعدم تغير ما في العلم لما علمت. ورأيت في نسخة لبعض الأفاضل كانت عندي وفقدت في حادثة بغداد ألفت في هذه المسألة وفيها أنه ما من شيء إلا ويمكن تغييره وتبديله حتى القضاء الأزلي واستدل لذلك بأمور. منها أنه قد صح من دعائه صلىاللهعليهوسلم في القنوت : «وقني شر ما قضيت» وفيه طلب الحفظ من شر القضاء الأولى ولم لم يمكن تغييره ما صح طلب الحفظ منه. ومنها ما صح في حديث التراويح من عذره صلىاللهعليهوسلم عن الخروج إليها ، وقد اجتمع الناس ينتظرونه لمزيد رغبتهم فيها بقوله : «خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» فإنه لا معنى لهذه الخشية لو كان القضاء الأزلي لا يقبل التغيير ، فإنه إن كان قد سبق القضاء بأنها ستفرض فلا بد أن تفرض وإن سبق القضاء بأنها لا تفرض فمحال أن تفرض على ذلك الفرض ، على أنه قد جاء في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج بعد ما هو ظاهر في سبق القضاء بأنها خمس صلوات مفروضة لا غير فما معنى الخشية بعد العلم بذلك لو لا العلم بإمكان التغيير والتبديل. ومنها ما صح أنه صلىاللهعليهوسلم كان يضطرب حاله الشريف ليلة الهواء الشديد حتى أنه لا ينام وكان يقول في ذلك : «أخشى أن تقوم الساعة» فإنه لا معنى لهذه الخشية أيضا مع اخبار الله تعالى أن بين يديها ما لم يوجد إذ ذاك كظهور المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى عليهالسلام وخروج يأجوج ومأجوج ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك مما يستدعي تحققه زمانا طويلا فلو لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أن القضاء يمكن تغييره وان ما قضي من أشراطها يمكن تبديله ما خشي صلىاللهعليهوسلم من ذلك. ومنها أن المبشرين بالجنة كانوا من أشد الناس خوفا من النار حتى أن منهم من كان يقول : ليت أمي لم تلدني ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول : لو نادى مناد كل الناس في الجنة إلا واحدا لظننت أني ذلك الواحد ، وهذا مما لا معنى له مع إخبار الصادق وتبشيره له بالجنة والعلم بأن القضاء لا يتغير. ومنها أنه لو لا إمكان التغيير للغا الدعاء إذ المدعو به إما أن يكون قد سبق القضاء بكونه فلا
__________________
(١) وفي الأخبار ما يؤيد ذلك اه منه.