ضرورة الشعر على أنه لا داعي إليه هنا بل قد يدعى فساد المعنى عليه ؛ وأيا ما كان فأل في الكتاب للجنس فهو شامل للكثير ، ولهذا فسره غير واحد بالجمع ، وقرأ نافع ، وابن عامر (وَيُثْبِتُ) بالتشديد (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) أصله إن نريك و (ما) مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ومن ثمة ألحقت النون بالفعل ، قال ابن عطية : ولو كانت (إِنْ) وحدها لم يجز الحاق النون ، وهو مخالف لظاهر كلام سيبويه ، قال ابن خروف : أجاز سيبويه الإتيان ـ بما ـ وعدم الإتيان بها والإتيان بالنون مع (ما) وعدم الإتيان بها ، والإراءة هنا بصرية والكاف مفعول أول وقوله سبحانه : (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) مفعول ثان ، والمراد بعض الذي وعدناهم من إنزال العذاب عليهم ، والعدول إلى صيغة المضارعة لحكاية الحال الماضية أو نعدهم وعدا متجددا حسب ما تقتضيه الحكمة من إنذار عقيب إنذار ، وفي إيراد البعض رمز على ما قيل إلى إراءة بعض الموعود (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل ذلك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي تبليغ أحكام ما أنزلنا عليك وما تضمنه من الوعد والوعيد لا تحقيق مضمون الوعيد الذي تضمنه ذلك ، فالمقصور عليه البلاغ ولهذا قدم الخبر ، وهذا الحصر مستفاد من إنما لا من التقديم وإلا لانعكس المعنى ، وقوله تعالى : (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) الظاهر أنه معطوف على ما في حيز إنما فيصير المعنى إنما علينا محاسبة أعمالهم السيئة والمؤاخذة بها دون جبرهم على اتباعك أو إنزال ما اقترحوه عليك من الآيات. واعتبر الزمخشري عطفه على جملة (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) فيصير المعنى وعلينا لا عليك محاسبة أعمالهم ، قيل : وهو الظاهر ترجيحا للمنطوق على المفهوم إذا اجتمع دليلا حصر ، وحاصل معنى الآية كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي أو لم نركه فعلينا ذلك وما عليك إلا التبليغ فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك به من الظفر ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية. وفي البحر عن الحوفي أنه قد تقدم في الآية شرطان (نُرِيَنَّكَ) و (نَتَوَفَّيَنَّكَ) لأن المعطوف على الشرط شرط ، وقوله تعالى: (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) لا يصلح أن يكون جوابا للشرط الأول ولا للشرط الثاني لأنه لا يترتب على شيء منهما وهو ظاهر فيحتاج إلى تأويل ، وهو أن يقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتبا عليه ، فيقال والله تعالى أعلم : وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذلك شافيك من أعدائك ودليل صدقك وإما نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب ، ويكون قوله تعالى : (فَإِنَّما) إلخ دليلا عليهما ، والواقع من الشرطين هو الأول كما في بدر.
ثم إنه سبحانه طيب نفسه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشير الظفر فقال جل شأنه : (أَوَلَمْ يَرَوْا) إلخ. والاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا في ذلك ولم يروا (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي أرض الكفرة (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) من جوانبها بأن نفتحها شيئا فشيئا ونلحقها بدار الإسلام ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا مقدمة لذاك.
ومثل هذه الآية قوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [الأنبياء : ٤٤] وروي ذلك عن ابن عباس والحسن والضحاك وعطية والسدي وغيرهم ، وروي عن ابن عباس أيضا وأخرجه الحاكم عنه وصححه أن انتقاص الأرض موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها. وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الاقتصار على الأخير ، وروي أيضا عن مجاهد فالمراد من الأرض جنسها ، والأطراف كما قيل بمعنى الأشراف ، ومجيء ذلك بهذا المعنى محكي عن ثعلب ، واستشهد له الواحدي بقول الفرزدق :
واسأل بنا وبكم إذا وردت مني |
|
أطراف كل قبيلة من يمنع |
وقريب من ذلك قول ابن الأعرابي : الطرف والطرف الرجل الكريم. وقول بعضهم : طرف كل شيء خياره ، وجعلوا من هذا قول علي كرم الله تعالى وجهه : العلوم أودية في أي واد أخذت منها خسرت فخذوا من كل شيء طرفا