قال ابن عطية : أراد كرم الله تعالى وجهه خيارا ؛ وأنت تعلم أن الأظهر جانبا ، وادعى الواحدي أن تفسير الآية بما تقدم هو اللائق. وتعقبه الإمام بأنه يمكن القول بلياقة الثاني ، وتقرير الآية عليه أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة وموتا بعد حياة وذلا بعد عز ونقصا بعد كمال وهذه تغييرات مدركة بالحس فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله تعالى الأمر عنهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين وهو كما ترى ، وقيل : نقصها هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وخراب أرضهم أي ألم يروا هلاك من قبلهم وخراب ديارهم فكيف يأمنون من حلول ذلك بهم ، والأول أيضا أوفق بالمقام منه ، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة كما في قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وفي الحواشي الشهابية أن المعنى يأتيها أمرنا وعذابنا ، وجملة (نَنْقُصُها) في موضع الحال من فاعل (نَأْتِي) أو من مفعوله ؛ وقرأ الضحاك (نَنْقُصُها) مثقلا من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم على ما في البحر (وَاللهُ يَحْكُمُ) ما يشاء كما يشاء وقد حكم لك ولأتباعك بالعز والإقبال وعلى أعدائك ومخالفيك بالقهر والاذلال حسبما يشاهده ذوو الأبصار من المخائل والآثار ، وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى ، وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها ، وقوله سبحانه : (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) اعتراض أيضا لبيان علو شأن حكمه جل وعلا ، وقيل : هو نصب على الحال كأنه قيل : والله تعالى يحكم نافذا حكمه كما تقول : جاء زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة أي حاسرا وإليه ذهب الزمخشري ، قيل : وإنما أول الجملة الاسمية بالمفرد لأن تجردها من الواو إذا وقعت حالا غير فصيح عنده ولا يخفى عليك أن جعلها معترضة أولى وأعلى ، والمعقب من يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يعقب الشيء بالإبطال ، ومنه يسمى الذي يطلب حقا من آخر معقبا لأن يعقب غريمه ويتبعه للتقاضي ، قال لبيد :
حتى تهجر بالرواح وهاجها |
|
طلب المعقب حقه المظلوم |
وقد يسمى الماطل معقبا لأنه يعقب كل طلب برد ، وعن أبي علي عقبني حقي أن مطلني. ويقال للبحث عن الشيء تعقب ، وجوز الراغب أن يراد هذا المعنى هنا على أن يكون الكلام نهيا للناس أن يخوضوا في البحث عن حكمه وحكمته إذا خفيت عليهم ، ويكون ذلك من نحو النهي عن الخوض في سر القدر (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاء في الدنيا حسبما يرى ، وكأنه قيل : لا تستبطئ عقابهم فإنه آت لا محالة وكل آت قريب ، وقال ابن عباس : المعنى سريع الانتقام.
(وَقَدْ مَكَرَ) الكفار (الَّذِينَ) خلوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل كفار مكة بأنبيائهم وبالمؤمنين كما فعل هؤلاء ، وهذا تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بأنه لا عبرة بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة ، ولم يصرح سبحانه بذلك اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله أعني قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ) أي جنس المكر (جَمِيعاً) لا وجود لمكرهم أصلا ، إذ هو عبارة عن إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يشعر به وحيث كان جميع ما يأتون ويذرون بعلمه وقدرته سبحانه وإنما لهم جرد الكسب من غير فعل ولا تأثير حسبما يبينه قوله تعالى: (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ومن قضيته عصمة أوليائه سبحانه وعقاب الماكرين بهم توفية لكل نفس جزاء ما كسبت ظهر إن ليس لمكرهم بالنسبة إلى من مكروا بهم عين ولا أثر وإن المكر كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرهم من حيث لا يحتسبون ، كذا قاله شيخ الإسلام ، وقد تكلف قدسسره في ذلك ما تكلف ، وحمل الكسب على ما هو الشائع عند الاشاعرة والله تعالى لا يفرق بينه وبين الفعل وكذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم