على التشبيه والاستعارة ، وأصل الدأب العادة المستمرة ، ونصب الاسم على الحال ، وتسخير هذين الكوكبين العظيمين جعلهما منيرين مصلحين ما نيط بهما صلاحه من المكونات ، ولعمري أن الله سبحانه جعلهما اجدى من تفاريق العصا. وفي كتاب المشارع والمطارحات للشيخ شهاب الدين السهروردي قتيل حلب أن تأثير الشمس والقمر أظهر الآثار السماوية ، وتأثير الشمس أظهر من تأثير القمر ، وأظهر الآثار بعد الشعاع التسخين الحاصل منه ولو لا ذلك ما كان كون ولا فساد ولا استحالة ولا ليل ولا نهار ولا فصول ولا مزاج ولا حيوانات ولا غيرها ، وأطال الكلام في بيان ذلك وما يتعلق به ، ولا ضرر عندي في اعتقاد أنهما مؤثران بإذن الله تعالى كسائر الأسباب عند السلف الصالح (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم ، وأرجع بعض المحققين التسخير في المواضع الأربعة إلى معنى التصريف ، وأصله سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا ، وذكر أن في التعبير عن ذلك به من الإشعار بما في ذلك من صعوبة المأخذ وعزة المنال والدلالة على عظم السلطان وشدة المحال ما لا يخفى ، والظاهر أنه في المعنى المراد به هنا مجاز في تلك المواضع جميعا ، ونقل أبو حيان عن المتكلمين أنه مجاز في الأخير منها قال : لأن الليل والنهار عرضان والأعراض لا تسخر وفيه قصور ، وفي إبراز كل من هذه النعم في جملة مستقلة تنويه لشأنها وتنبيه على رفعة مكانها وتنصيص على كون كل نعمة جليلة مستوجبة للشكر.
وتأخير تسخير الشمس والقمر عن تسخير ما تقدم من الأمور مع ما بينه وبين خلق السموات من المناسبة الظاهرة قيل : لاستتباع ذكرها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزال الماء منها إليها الموجب لذكر إخراج الرزق الذي من جملته ما يحصل بواسطة الفلك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل ـ أعني خلق السموات والأرض وتسخير الشمس والقمر ـ نعمة واحدة ، وقد تقدم نظيره آنفا ، وذكر بعضهم في وجه ذكر هذه المتعاطفات على هذا الأسلوب أنه بدأ بخلق السموات والأرض لأنهما أصلان يتفرع عليهما سائر ما يذكر بعد ، وثنى بإنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به لشدة تعلق النفوس بالرزق فيكون تقديمه من قبيل تعجيل المسرة. ولما كان الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجواري في البحر وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع من ذلك وبالنقل يكثر الربح ذكر سبحانه تسخير الفلك التي ينقل عليها واقتصر عليها اعتناء بشأنها ، ولما ذكر أمر الثمرات وما به يكمل الانتفاع بها من حيث النقل ذكر تسخير الأنهار العذبة التي يشرب منها الناس في سائر الأحيان إتماما لأمر الرزق وذكر تسخير الشمس والقمر بعد لأن الانتفاع بهما ليس بالمباشرة كالانتفاع بالفلك والانتفاع بالأنهار ، وأخر تسخير الليل والنهار لأنهما عرضان وما تقدمهما جوهر والعرض من حيث هو بعد الجوهر اه ، وليس بشيء يعول عليه.
(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي أعطاكم بعض جميع من سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة ـ فمن كل ـ مفعول ثان ـ لآتي ـ و (مِنْ) تبعيضية ، وقال بعض الكاملين : إن (كُلِ) للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى : و (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٤٤] واعترض على حمل (مِنْ) على التبعيض دون ابتداء الغاية بأنه يفضي إلى إخلاء لفظ (كُلِ) عن فائدة زائدة لأن (ما) نص في العموم بل يوهم إيتاء البعض من كل فرد متعلق به السؤال ولا وجه له.
ودفع بأنه بعد تسليم كون (ما) نصا في العموم هنا عمومان عموم الأفراد وعموم الأصناف بمعنى كل صنف صنف وهما مقصودان هنا ، فالمعنى أعطاكم من جميع أفراد كل صنف سألتموه ، فإن الاحتياج بالذات إلى النوع والصنف لا لفرد بخصوصه ، وفسر (ما سَأَلْتُمُوهُ) بما من شأنه أن يسأل لاحتياج الناس إليه سواء سئل بالفعل أم لم يسأل ، فلا ينفى إيتاء ما لا حاجة إليه مما لا يخطر بالبال ، وجعلوا الاحتياج إلى الشيء سؤالا له بلسان الحال وهو من