حيان بعد نقله وقد يقال : إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء إذ لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث الماء فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء اه ، وقال بعضهم : إن طلب الماء لم يكن مهما له عليهالسلام لما أن الوادي مظنة السيول والمحتاج للماء يدخر منها ما يكفيه وكان المهم له طلب الثمرات فوصف ذلك بكونه غير صالح للزرع بيانا لكمال الافتقار إلى المسئول فتأمل. (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ظرف لأسكنت كقولك : صليت بمكة عند الركن ، وزعم أبو البقاء أنه صفة واد أبو بدل منه ، واختار بعض الأجلة الأول إذ المقصود إظهار كون ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقرب إلى الله تعالى والالتجاء إلى جواره الكريم كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره ، فإنهم قالوا : معنى كون البيت محرما أن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به أو أنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه الجبابرة في كل عصر أو لأنه منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذا سمي عتيقا على ما قيل (١) ، وأبعد من قال إنه سمي محرما لأن الزائرين يحرمون على أنفسهم عند زيارته أشياء كانت حلالا عليهم ، وسماه عليهالسلام بيتا باعتبار ما كان فإنه كان مبنيا قبل ، وقيل : باعتبار ما سيكون بعد وهو ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة كذلك.
(رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي لأن يقيموا ، فاللام جارة والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ، والجار والمجرور متعلق ـ بأسكنت ـ المذكور ، وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة فإنها عماد الدين ولذا خصها بالذكر من بين سائر شعائره ، والمعنى على ما يقتضيه كلام غير واحد على الحصر أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقربين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين رحمتك التي آثرت بها سكان حرمك.
وهذا الحصر ـ على ما ذكروا ـ مستفاد من السياق فإنه عليهالسلام لما قال : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) نفى أن يكون سكانهم للزراعة ولما قال : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أثبت أنه مكان عبادة فلما قال : (لِيُقِيمُوا) أثبت أن الإقامة عنده عبادة وقد نفى كونها للكسب فجاء الحصر مع ما في (رَبَّنا) من الإشارة إلى أن ذلك هو المقصود.
وعن مالك أن التعليل يفيد الحصر ، فقد استدل بقوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها) [النحل : ٨] على حرمة أكلها ، وفي الكشف أن استفادة الحصر من تقدير محذوف مؤخر يتعلق به الجار والمجرور أي ليقوموا أسكنتهم هذا الإسكان ، أخبر أولا أنه أسكنهم ، بواد قفر فأدمج فيه حاجتهم إلى الوافدين وذكر وجه الإيثار لشرف الجوار بقوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ثم صرح ثانيا بأنه إنما آثر ذلك ليعمروا حرمك المحرم وبنى عليه الدعاء الآتي ، ومن الدليل على أنه غير متعلق بالمذكور تخلل (رَبَّنا) ثانيا بين الفعل ومتعلقه وهذا بين ولا وجه لاستفادة ذلك من تكرار (رَبَّنا) إلا من هذا الوجه اه ، واختار بعضهم ما ذكرناه أولا في وجه الاستفادة وقال : إنه معنى لطيف ولا ينافيه الفصل بالنداء لأنه اعتراض لتأكيد الأول وتذكيره فهو كالمنبه عليه فلا حاجة إلى تعلق الجار بمحذوف مؤخر واستفادة الحصر من ذلك ، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه ، ويجعل النداء مؤكدا للأول يندفع ما قيل : إن النداء له صدر الكلام فلا يتعلق ما بعده بما قبله فلا بد من تقدير متعلق ، ووجه الاندفاع ظاهر ، وقيل : اللام لام الأمر والفعل مجزوم بها ، والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها ولا يخفى بعده ، وأبعد منه ما قاله أبو الفرج بن
__________________
(١) وقيل : العتيق مقابل الجديد اه منه.