كل شيء قدير وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء سائر مراسم العبودية واستدل به على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات ، ولا يخفى ما في دعائه عليهالسلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة ، ولذا من عليه بحسن القبول وإعطاء المسئول ، ولا بدع في ذلك من خليل الرحمن عليهالسلام.
(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) من الحاجات وغيرها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي أن مراده عليهالسلام ما نخفي من حب إسماعيل وأمه وما نعلن لسارة من الجفاء لهما ، وقيل : ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة وما نعلن من البكاء والدعاء ، وقيل : ما نخفي من كآبة الافتراق وما نعلن مما جرى بيننا وبين هاجر عند الوداع من قولها : إلى من تكلنا؟ وقولي لها : إلى الله تعالى ، و (ما) في جميع هذه الأقوال موصولة والعائد محذوف ؛ والظاهر العموم وهو المختار ، والمراد بما نخفي على ما قيل ما يقابل (ما نُعْلِنُ) سواء تعلق به الإخفاء أو لا أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمه تعالى متعلق بما لا يخظر بباله عليهالسلام من الأحوال الخفية ، وتقديم (ما نُخْفِي) على (ما نُعْلِنُ) لتحقيق المساواة بينهما في تعلق العلم على أبلغ وجه فكان تعلقه بما يخفى أقدم منه بما يعلن أو لأن مرتبة السر والخفاء متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن الا وهو قبل ذلك خفي فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية ، وجعل بعضهم (ما) مصدرية والتقديم والتأخير لتحقيق المساواة أيضا ، ومن هنا قيل : أي تعلم سرنا كما تعلم علننا.
والمقصود من فحوى كلامه عليهالسلام أن إظهار هذه الحاجات وما هو مباديها وتتماتها ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لإظهار العبودية والتخشع لعظمتك والتذلل لعزتك وعرض الافتقار لما عندك والاستعجال لنيل أياديك ، وقيل : أراد عليهالسلام أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا من أنفسنا فلا حاجة لنا إلى الطلب لكن ندعوك لإظهار العبودية إلى آخره ، وقد أشار السهروردي إلى أن ظهور الحال يغني عن السؤال بقوله :
ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني |
|
عليل ومن أشكو إليه عليل |
ويمنعني الشكوى إلى الله أنه |
|
عليم بما أشكوه قبل أقول |
وتكرير النداء للمبالغة في الضراعة والابتهال ، وضمير الجماعة ـ كما قال بعض المحققين ـ لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بما يخفى وما يعلن بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه عليهالسلام بقوله على وجه الاعتراض : (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لما أن علمه تعالى ذاتي فلا يتفاوت بالنسبة إليه معلوم دون معلوم ، وقال أبو حيان : لا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم ا ه. ومما نقلنا يعلم وجه إضافة رب هنا إلى ضمير الجمع ، ولا أدري ما ذا أراد أبو حيان بكلامه هذا ، وما يرد عليه أظهر من أن يخفى ، وإنما قال عليهالسلام : (وَما يَخْفى) إلى آخره دون أن يقول : ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقا لما عناه بقوله : (تَعْلَمُ ما نُخْفِي) من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقات. وكلمة (فِي) متعلقة بمحذوف وقع صفة ـ لشيء ـ أي لشيء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما ، وجوز أن تتعلق ـ بيخفى ـ وهو كما ترى. وتقديم الأرض على السماء مع توسيط (لا) بينهما باعتبار القرب والبعد من المستعدين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا. والمراد من (السَّماءِ) ما يشمل السموات كلها ولو أريد من (الْأَرْضِ) جهة السفل ومن