الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حين انفصاله من بطن أمه لا يميز بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ثم إنه بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على معرفة الله تعالى وعلى معرفة أصناف المخلوقات العلوية والسفلية والاطلاع على كثير من أحوالها الدقيقة وعلى الخصومات والمباحثات فانتقال نفسه من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقلها من نقصانها إلى كمالها ومن جهالتها إلى معرفتها بحسب الحكمة والاختيار ، والثاني قيل : أنسب بمقام تعداد هنات الكفرة فإنه قد اشتمل من بيان جراءة من كفر على الله تعالى وعدم استحيائه منه سبحانه ووقاحته بتماديه في الكفر.
وذكر بعضهم أنه يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في سورة يس بعد ما ذكر مثله : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فإنه نص فيما ذكر فيكون صدر الآية للاستدلال وعجزها لتقرير الوقاحة ، وتعقب بأنه ليس بشيء لأن مدار ما قبلها في تلك السورة على ذكر الحشر والنشر ومكابرتهم فيه بخلاف هذه ولكل مقام مقال ، وأما كون الآية مسوقة لتقرير وقاحة الإنسان لانتفاء التنافي بين الاستدلال على الوحدانية والقدرة وتقرير وقاحة المنكرين ولذا جعل التتميم لما قبله (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فعدم المنافي لا يقتضي وجود المناسب ، وعندي لكل وجهة.
وفي الكشف المعنيان ملائمان للمقام إلا أن في الثاني زيادة ملائمة مع قوله : (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم إنه أدمج فيه المعنى الأول ، وروى الواحدي أن أبي بن خلف أتى النبي صلىاللهعليهوسلم بعظم رميم وقال : يا محمد أترى أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رم فنزلت نظير ما في آخر يس ، والمشهور أن تلك هي النازلة في تلك القصة ، ثم وجه التعقيب وإذا الفجائية في قوله سبحانه : (فَإِذا هُوَ) إلى آخره مع أن كونه خصيما مبينا بأي معنى أريد لم يعقب خلقه من نطفة إذ بينهما وسائط أنه بيان لأطواره إلى كمال عقله فالتعقيب باعتبار آخرها فلا وجه لتقدير الوسائط ولا للقول بأنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤول إليه فافهم. (وَالْأَنْعامَ) وهي الأزواج الثمانية من الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز ، قال الراغب : ولا يقال أنعام إلا إذا كان فيها إبل ، وخصها بعضهم هنا بذلك وليس بشيء ، والنصب على المفعولية لفعل مضمر يفسره قوله تعالى : (خَلَقَها) وهو أرجح من الرفع في مثل هذا الموضع لتقدم الفعلية وقرئ به في الشواذ أو على العطف على الإنسان وما بعد بيان ما خلق لأجله والذي بعده تفصيل لذلك ، وقوله سبحانه : (لَكُمْ) إما متعلق ـ بخلقها ـ وقوله تعالى : (فِيها) خبر مقدم وقوله جل وعلا : (دِفْءٌ) مبتدأ مؤخر والجملة حال من المفعول أو الجار والمجرور الأول خبر للمبتدإ المذكور والثاني متعلق بما فيه من معنى الاستقرار ، وقيل : حال من الضمير المستكن فيه العائد على المبتدأ ، وقيل : حال من «دفء» إذ لو تأخر لكان صفة ، وجوز أبو البقاء أن يكون الثاني هو الخبر والأول في موضع الحال من مبتدئه ، وتعقبه أبو حيان بأن هذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى لا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها فلا يجوز قائما في الدار زيد فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف وإن توسطت فالأخفش على الجواز والجمهور على المنع ، وجوز أبو البقاء أيضا أن يرتفع (دِفْءٌ) ـ بلكم ـ أو ـ بفيها ـ والجملة كلها حال من الضمير المنصوب ، وتعقبه أبو حيان أيضا بأن ذلك لا يعد من قبيل الجملة بل هو من قبيل المفرد ، ونقل أنهم جوزوا أن يكون (لَكُمْ) متعلقا ـ بخلقها ـ وجملة فيها (دِفْءٌ) استئناف لذكر منافع الانعام ، واستظهر كون جملة (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) مستأنفة ، ثم قال : ويؤيد الاستئناف فيها الاستئناف في مقابلتها أعني قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) فقابل سبحانه المنفعة الضرورية بالمنفعة الغير الضرورية ، وإلى نحو ذلك ذهب القطب فاختار أن الكلام قد تم عند (خَلَقَها) لهذا العطف وخالفه في ذلك صاحب الكشف فقال : إن قوله تعالى :