(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أي القرآن وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر ولأنه سبب له ، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكرا ، وقيل : المراد بالذكر العلم وليس بذاك (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا (ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بافانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهمالسلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبئ عنه صيغة التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الأفعال ، وعن مجاهد أن المراد بهذا التبيين تفسير المحمل وشرح ما أشكل إذا هما المحتاجان للتبيين ، وأما النص والظاهر فلا يحتاجان إليه.
وقيل : المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى ، ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية ، واستأنس له بما
أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال : «قام فينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم مقاما أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه» وهذا في معنى ما ذكر غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه ، ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار ، ولعل قوله عزوجل : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) إشارة إلى ذلك أي وطلب إن يتأملوها فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب ، وقال بعض المعتزلة : أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال : وفيه دلالة على أن الله تعالى إرادة من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر ، ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب ، ومن قدرها منا أراده منها ، وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر ، وهي لا ينفك المراد عنها على المذهب الحق فلا بد من العدول عنه إلى مقابله ، وقيل : أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل ، وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلىاللهعليهوسلم من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) هم عند أكثر المفسرين أهل مكة الذين مكروا برسول الله صلىاللهعليهوسلم وراموا ضد أصحابه رضي الله تعالى عنهم عن الإيمان ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنهم نمروذ بن كنعان وقومه ، وعمم بعضهم فقال : هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء عليهمالسلام ، وتعقب بأن المراد تحذير أهل مكة عن إصابة ما أصاب الأولين من فنون العذاب المعدودة فالمعول عليه ما عند الأكثر ، و «السيئات» نعت لمصدر محذوف أي مكروا المكرات السيئات التي قصت عنهم أو مفعول به للفعل المذكور على تضمينه معنى فعل متعد كعمل أي عملوا السيئات ماكرين فقوله تعالى (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) مفعول لأمن أو (السَّيِّئاتِ) مفعول لأمن بتقدير مضاف أو تجوز أي عقاب السيئات أو على أن (السَّيِّئاتِ) بمعنى العقوبات التي تسوؤهم ، و (أَنْ يَخْسِفَ) بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه الذي من جملته انباء الأمم المهلكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ على توجيه الإنكار إلى المعطوفين أو أتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى المعطوف ، وقيل : هو للعطف على مقدر ينبئ عنه الصلة أي أمكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ ، وخسف يستعمل لازما ومتعديا يقال : ـ كما قال الراغب ـ خسفه الله تعالى وخسف هو وكلا الاستعمالين محتمل هنا ، فالباء إما للتعدية أو للملابسة و (الْأَرْضَ) إما مفعول به أو نصب بنزع الخافض أي فأمن الذي مكروا السيئات أن يغيبهم الله تعالى في الأرض أو يغيبها بهم كما فعل بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها كجهة مأمنهم أو الجهة التي