المقيد على المطلق أي ألم يروا الأشياء التي لها ظلال متفيئة عن جانبي كل واحد منها ترجع من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإن لها مشارق ومغارب بحسب مداراتها اليومية حال كون الظلال (سُجَّداً لِلَّهِ) أي منقادة له تعالى جارية على ما أراد من الامتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه سبحانه فيما سخرها له وهو المراد بسجودها ، وقد يفسر باللصوق في الأرض أي حال كونها لاصقة بالأرض على هيئة الساجد ، وقوله تعالى : (وَهُمْ داخِرُونَ) حال من ضمير «ظلاله» الراجع إلى شيء ، والجمع باعتبار المعنى وصح مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزء ، وإيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخور من خصائصهم فإنه التصاغر والذل ، قال ذو الرمة :
فلم يبق إلا داخر في مخيس (١) |
|
ومنحجر في غير أرضك في حجر |
فالكلام على الاستعارة أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب ، ووجه التعبير بهم يعلم مما ذكر ، ويجوز أن يعتبر وجهه أولا ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة له أي والحال أن أصحاب تلك الضلال ذليلة منقادة لحكمه تعالى ، ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به ، وجوز كون (سُجَّداً) والجملة حالين من الضمير أي ترجع ظلال تلك الأجرام حال كون تلك الأجرام منقادة له تعالى داخرة فوصفها بهما مغن عن وصف ظلالها بهما.
والمراد بالسجود أيضا الانقياد سواء كان بالطبع أو بالقسر أو بالإرادة ، فلا يرد على احتمال أن يكون المراد ب (ما خَلَقَ) شاملا للعقلاء وغيرهم كيف يكون (سُجَّداً) حالا من ضميره وسجود العقلاء غير سجود غيرهم.
وحاصل ما أشرنا إليه أن ذلك من عموم المجاز ، والأمر على احتمال أن يراد من ذاك الجمادات ظاهر ، وزعم بعضهم أن السجود حقيقة مطلقا وهو الوقوع على الأرض على قصد العبادة ويستدعي ذلك الحياة والعلم لتقصد العبادة ، وليس بشيء كما لا يخفى ، ثم إن قلنا على هذا الوجه : إن الواو حالية كما أشير إليه فالحالان مترادفتان ، وتعدد الحال جائز عند الجمهور ، ومن لم يجوز جعل الثانية بدل اشتمال أو بدل كل من كل كما فصله السمين ، وإن قلنا : إنها عاطفة فلا تكون الحال مترادفة بل متعاطفة ، وقال أبو البقاء : (سُجَّداً) حال من الظلال (وَهُمْ داخِرُونَ) حال من الضمير في (سُجَّداً) ويجوز أن يكون حالا ثانية معطوفة اه ، وفيه القول بالتداخل وهو محتمل على تقدير كون (سُجَّداً) حالا من ضمير (ظِلالُهُ) والوجه الأول هو المختار عند الزمخشري ، ورجحه في الكشف فقال : إن انقياد الظل وذي الظل مطلوب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرعد : ١٥] فجاعلهما حالا من الضمير في (ظِلالُهُ) مقصر ، وفيه تكميل حسن لما وصف الظلال بالسجود وصف أصحابها بالدخور الذي هو أبلغ لأنه انقياد قهري مع صفة المنقاد ، ولم يجعل حالا من الراجع إلى الموصول في (خَلَقَ اللهُ) إذ المعنى على تصوير سجود الظل وذيه وتقارنهما في الوجود لا على مقارنة الخلق والدخور ، والعامل في الحال الثاني (يَتَفَيَّؤُا) على ما قال ابن مالك في قوله تعالى : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [البقرة : ١٣٥] اه ، ومنه يعلم ما في إعراب أبي البقاء. نعم إن في هذا الوجه بعدا لفظيا والأمر فيه هين ، وأما جعل (وَهُمْ داخِرُونَ) حالا من ضمير (يَرَوْا) فمما لا يصح بحال كما لا يخفى.
هذا وذكر الإمام في اليمين والشمال قولين غير ما تقدم. الأول أن المراد بهما المشرق والمغرب تشبيها لهما بيمين الإنسان وشماله فإن الحركة اليومية آخذة من المشرق وهوى أقوى الجانبين فهو اليمين والجانب الآخر الشمال
__________________
(١) أي سجن اه منه.