والجملة حال من الضمير في (لا يَسْتَكْبِرُونَ) وجوز أن تكون بيانا لنفي الاستكبار وتقريرا له لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته ، واختاره ابن المنير وقال : إنه الوجه ليس إلا لئلا يتقيد الاستكبار وليدل على ثبوت هذه الصفة أيضا على الإطلاق ، ولا بد أن يقال على تقدير الحالية : إنها حال غير منتقلة وقد جاءت في الفصيح بل في أفصحه على الصحيح ، وفي اختيار عنوان الربوبية تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم.
(وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه ، واستدل بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء ، أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر ، وأما على الخوف فهو أظهر من أن يخفى ، وأما على الرجاء فلاستلزام الخوف على ما قيل ، وقيل : إن اتصافهم بالرجاء لأن من خدم أكرم الأكرمين كان من الرجاء بمكان مكين ، وزعم بعضهم أن خوفهم ليس إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب ، ويرده ، قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٨ ، ٢٩] ولا ينافي ذلك عصمتهم ، وقال الإمام : الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال ، وذكر أنه نقل عن ابن عباس واستدل له بقوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] وفي القلب منه شيء ، والحق أن الآية لا تصلح دليلا لكون الملائكة أفضل من البشر. واستدل بها فرقة على ذلك من أربعة أوجه ذكرها الإمام ولم يتعقبها بشيء لأنه ممن يقول بهذه الأفضلية ، وموضع تحقيق ذلك كتب الكلام.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (أَتى أَمْرُ اللهِ) وهو القيامة الكبرى التي يرتفع فيها حجب التعينات ويضمحل السوي ، ولما كان صلىاللهعليهوسلم مشاهدا لذلك في عين الجمع قال (أَتى) ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر للكل لا يكون إلا بعد حين قال : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) لأن هذا ليس وقت ظهوره ، ثم أكد شهوده لوجه الله تعالى وفناء الخلق في القيامة : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بإثبات وجود الغير ، ثم فصل ما شاهد في عين الجمع لكونه في مقام الفرق بعد الجمع لا يحتجب بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس فقال : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) وهو العلم الذي تحيا به القلوب (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم المخلصون له (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) وقال بعضهم : أي خوفوا الخلق من الخواطر الرديئة الممزوجة بالنظر إلى غيري وخوفهم من عظيم جلالي ، وهذا وحي تبليغ وهو مخصوص بالمرسلين عليهمالسلام ، وذكروا أن الوحي إذا لم يكن كذلك غير مخصوص بهم بل يكون للأولياء أيضا (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) [فصلت : ٣٠] وقد روي عن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة تزاحمهم في مجالسهم ، ثم إنه تعالى عدد الصفات وفصل النعم فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) إلخ ، وفي قوله سبحانه : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) إلخ إشارة كما نقل عن الجنيد قدسسره إلى أنه ينبغي لمن أراد البلوغ إلى مقصده أن يكون أول أمره وقصده الجهد والاجتهاد ليوصله بركة ذلك إلى مقصوده ، وذكروا أن المحمولين من العباد إلى المقاصد أصناف وكذا المحول عليه ، فمحمول بنور الفعل ، ومحمول بنور الصفة ، ومحمول بنور الذات ، فالمحمول بنور الفعل يكون بلده مقام الخوف والرجاء ومحلته صدق اليقين وداره مربع الشهود ، والمحمول بنور الصفة يكون بلده مقام المعرفة ومحلته صفو الخلة وداره دار المودة ، والمحول بنور الذات يكون بلده التوحيد ومحلته الفناء وداره البقاء ، وهذه الأصناف للسالك ، وأما المجذوب فمحول على مطية الفضل إلى بلد المشاهدة ، وفي قوله سبحانه : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) تحيير للإفهام وتعجيز أي تعجيز عن أن تدرك الملك العلام ؛ وقال بعضهم : إن فيها تعليما للوقوف عند ما لا يدركه العقل من آثار الصنع