على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) الهمزة للإنكار والفاء للتعقيب أي أبعد ما تقرر من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كله له سبحانه ونهيه عن اتخاذ الإلهين وكون الدين له واصبا المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به تعالى تتقون غيره ، والمنكر تقوى غير الله تعالى لا مطلق التقوى ولذا قدم الغير ، وأولى الهمزة لا للاختصاص حتى يرد أن إنكار تخصيص التقوى بغيره سبحانه لا ينافي جوازها ، وقيل : يصح أن يعتبر الاختصاص بالإنكار فيكون التقديم لاختصاص الإنكار لا لإنكار الاختصاص. وفي البحر أن هذا الاستفهام يتضمن التوبيخ والتعجب أي بعد ما عرفتم من وحدانيته سبحانه وأن ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) أي أي شيء يلابسكم ويصاحبكم من نعمة أي نعمة كانت فهي منه تعالى ـ فما ـ موصولة مبتدأ متضمنة معنى الشرط ومن الله خبرها والفاء زائدة في الخبر لذلك التضمن و (مِنْ نِعْمَةٍ) بيان للموصول و (بِكُمْ) صلته ، وأجاز الفراء وتبعه الحوفي أن تكون (ما) شرطية وفعل الشرط محذوف أي وما يكن بكم من نعمة إلخ. واعترضه أبو حيان بأنه لا يحذف فعل الشرط إلا بعد إن خاصة في موضعين باب الاشتغال نحو (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة : ٦] وأن تكون إن الشرطية متلوة بلا النافية وقد دل على الشرط ما قبله كقوله :
فطلقها فلست لها بكفء |
|
وإلا يعل مفرقك الحسام |
وحذفه في غير ما ذكر ضرورة كقوله :
قالت بنات العم يا سلمى وإن |
|
كان فقيرا معدما قالت وإن |
وقوله :
أينما الريح تميّلها تمل
وأجيب بأن الفراء لا يسلم هذا فما أجازه مبني على مذهبه. واستشكل أمر الشرطية على الوجهين من حيث إن الشرط لا بد أن يكون سببا للجزاء كما تقول : إن تسلم تدخل الجنة فإن الإسلام سبب لدخول الجنة وهنا على العكس ، فإن الأول وهو استقرار النعمة بالمخاطبين لا يستقيم أن يكون سببا للثاني وهو كونها من الله من جهة كونه فرعا عنه. وأجاب في إيضاح المفصل بأن الآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها أو شكوا فيه أو فعلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين فاستقرارها مجهولة أو مشكوكة سبب للإخبار بكونها من الله تعالى فيتحقق أن الشرط والمشروط فيها على حسب المعروف من كون الأول سببا والثاني مسببا ، وقد وهم من قال : إن الشرط قد يكون مسببا. وفي الكشف أن الشرط والجزاء ليسا على الظاهر فإن الأول ليس سببا للثاني بل الأمر بالعكس لكن المقصود نه تذكيرهم وتعريفهم فالاتصال سبب العلم بكونها من الله تعالى ، وهذا أولى مما قدره ابن الحاجب من أنه سبب الإعلام بكونها منه لأنه في قوم استقرت بهم النعم وجهلوا معطيها أو شكوا فيه ، ألا ترى إلى ما بني عليه بعد كيف دل على أنهم عالمون بأنه سبحانه المنعم ولكن يضطرون إليه عند الإلجاء ويكفرون بعد الإنجاء انتهى. وفيه أنه يدفع ما ذكره بأن علمهم نزل لعدم الاعتداد به وفعلهم ما ينافيه منزلة الجهل فأخبروا بذلك كما تقول لمن توبخه : أما أعطيتك كذا أما وأما (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) مساسا يسيرا (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) تتضرعون في كشفه لا إلى غيره كما يفيد تقديم الجار والمجرور ، والجؤار في الأصل صياح الوحش واستعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة ، قال الأعشى يصف راهبا :
يداوم من صلوات المليك |
|
طورا سجودا وطورا جؤارا |
وقرأ الزهري «تجرون» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم ، وفي ذكر المساس المنبئ عن أدنى إصابة