(وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) يعني البنين و (ما) مفروع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حاق موقعه ، وجوز الفراء. والحوفي أنه في محل نصب معطوف على (الْبَناتِ) كأنه قيل : ويجعلون لهم ما يشتهون. واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد وعدم فلا يجوز زيد ضربه بمعنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أي مر هو بنفسه ويجوز زيد ظنه قائما وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان الضمير اسما ظاهرا (١) كالنفس نحو زيد ضرب نفسه أو ضميرا منفصلا نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز ، فإذا عطف «ما» على (الْبَناتِ) أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل وهو واو (يَجْعَلُونَ) إلى ضميره المتصل وهو هم المجرور باللام في غير ما استثني وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان حقه أن يقال ـ لأنفسهم ـ وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل بمعنى وقوعه عليه أو على ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس واقعا بالجاعلين بل بما يشتهون ، ومحصله ـ كما قال الخفاجي ـ المنع في المتعدي بنفسه مطلقا والتفصيل في المتعدي بالحرف بين ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم ألف إيقاع المرء بنفسه. وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥]. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) [القصص : ٣٢] والعلامة البيضاوي أجاب بوجه آخر وهو أن الامتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولا لا ثانيا وتبعا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية ، وقال الخفاجي : هو قوي عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أي أخبر بولادتها ، وأصل البشارة الإخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوؤهم حملت على مطلق الأخبار ، وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع النظر عن كونها وقيل : إنه بشارة حقيقة بالنظر إلى حال المبشر به في نفس الأمر ، وأيّا ما كان فالكلام على تقدير مضاف كما أشرنا إليه (ظَلَّ وَجْهُهُ) أي صار (مُسْوَدًّا) من الكآبة والحياة من الناس ، وأصل معنى ظل أقام نهارا على الصفة التي تسند إلى الاسم ، ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر اخبار المولود له إلى النهار خصوصا بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصل طول النهار واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والفكرة والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى ، قيل : إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف لا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فيرى مشرقا متلألئا ، وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه فيربد ويتغير ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية ، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن إرداءه واسوداده فلذلك كني عن الفرح بالاستنارة وعن الغم بالاسوداد ، ولو قيل بالمجاز لم يبعد بل قال بعضهم «إنه الظاهر» والظاهر أن (وَجْهُهُ) اسم ظل و (مُسْوَدًّا) خبره ، وجوز كون الاسم ضميرا لأحد ووجهه بدلا منه ولو رفع (مُسْوَدًّا) على أن (وَجْهُهُ) مبتدأ وهو خبر له والجملة خبر (ظَلَ) صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء غيظا وأصل الكظم مخرج النفس يقال : أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه ، ومنه كظم الغيظ لاخفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه.
__________________
(١) قوله اسما ظاهرا وقوله بعده أو ضميرا منفصلا كذا بخطه فليتأمل.