الشرع بتحريمه. وجوز الزمخشري أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل : تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي على أن العطف من عطف الصفات. وأنت تعلم أن العطف ظاهره المغايرة.
هذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه إضافة سبحانه لنفسه بقوله تعالى : (نُسْقِيكُمْ) بخلاف اتخاذ السكر وقد صرح بذلك في البحر فتأمل (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) باهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات فالفعل منزل منزلة اللازم ، قال أبو حيان : ولما كان مفتتح الكلام (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ناسب الختم بقوله سبحانه : ـ يعقلون ـ لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول. وأنا أقول : إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث إن العقار كما قيل للعقول عقال :
إذا دارها بالأكف السقاة |
|
لخطابها أمهروها العقولا |
فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ألهمها وألقى في روعها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير ؛ وفسر بعضهم الإيحاء إليها بتسخيرها لما أريد منها ، ومنعوا أن يكون المراد حقيقة الإيحاء لأنه إنما يكون للعقلاء وليس النحل منها. نعم يصدر منها أفعال ويوجد فيها أحوال يتخيل بها أنها ذوات عقول وصاحبة فضل بمقصر عنه الفحول ، فتراها يكون بينها واحد كالرئيس هو أعظمها جثة يكون نافذ الحكم على سائرها والكل يخدمونه ويحملون عنه وسمي اليعسوب والأمير ، وذكروا أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت بجمعيتها إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا لها الطبول وآلات الموسيقى ورودها بواسطة تلك الألحان إلى وكرها ، وهي تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية والعقلاء لا يمكنهم ذلك إلا بآلات مثل المسطرة والفرجار وتختارها على غيرها من البيوت المشكلة بأشكال أخر كالمثلثات والمربعات والمخمسات وغيرها ، وفي ذلك سر لطيف فإنهم قالوا : ثبت في الهندسة أنها لو كانت مشكلة بأشكال أخر يبقى فيما بينها بالضرورة فرج خالية ضائعة ؛ ولها أحوال كثيرة عجيبة غير ذلك قد شاهدها كثير من الناس وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والصوفية على ما ذكره الشعراني في غير موضع لا يمنعون إرادة الحقيقة ، وقد أثبتوا في سائر الحيوانات رسلا وأنبياء والشرع يأبى ذلك. وذهب بعض حكماء الإشراق إلى ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وأكاد أسلم لهم ذلك ولم نسمع عن أحد غير الصوفية القول بما سمعت عنهم ، والنحل جنس واحده نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال سبحانه : (أَنِ اتَّخِذِي) وقرأ ابن وثاب «النحل» بفتحتين وهو يحتمل أن يكون لغة وأن يكون اتباعا لحركة النون ، و (أَنِ) إما مصدرية بتقدير باء الملابسة أي بأن اتخذي أو تفسيرية وما بعدها مفسر للإيحاء لأن فيه باعتبار معناه المشهور معنى القول دون حروفه ، وذلك كاف في جعلها تفسيرية : وقد غفل عن ذلك أبو حيان أو لم يعتبره فقال : إن ذلك نظرا لأن الوحي هنا بمعنى الإلهام إجماعا وليس في الإلهام معنى القول (مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) أوكارا ، وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه تشبيها له بما يبنيه الإنسان لما فيه من حسن الصنعة القسمة كما سمعت : وقرئ «بيوتا» بكسر الباء لمناسبة الياء وإلا فجمع فعل على فعول بالضم.
(وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي يعرشه الناس أي يرفعه من الكروم كما روي عن ابن زيد وغيره أو السقوف كما نقل عن الطبري أو أعم منهما كما قال البعض ، و (مِنَ) في المواضع الثلاثة للتبعيض بحسب الأفراد وبحسب الأجزاء فإن النحل لا يبني في كل شجر وكل جبل وكل ما يعرش ولا في كل مكان من ذلك ، وبعضهم قال : إن (مِنَ) للتبعيض بحسب الأفراد فقط ، والمعنى الآخر معلوم من خارج لا من مدلول (مِنَ) إذ لا يجوز استعمالها فيهما ولمولانا ابن كمال تأليف مفرد في المسألة فليراجع ، وأيّا ما كان ففيه مع ما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى من