في الأم وكذا في الأب غير ما ذكر ، وذلك أنه يطلق الأب على المادة والأم على الصورة ، وزعم أن قول الصادق رضي الله تعالى عنه : إن الله تعالى خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه أبوه النور وأمه الرحمة إشارة إلى ذلك وأن ما اصطلح عليه المتقدمون والحكماء من أن الأب هو الصورة والأم هي المادة وأن الصورة إذا نكحت المادة تولد عنهما الشيء توهما منهم أن النشور والخلق في بطن المادة بعيدة من جهة المناسبة إلى آخر ما قال فتفطن وإياك أن تعدل عن الطريق السوي (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح (ما يُمْسِكُهُنَ) من غير تعلق بمادة لا اعتماد على جسم ثقيل (إِلَّا اللهُ) عزوجل (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) وهو ما يستظل به من وهج نار الحاجة فالماء ظل للعطشان والطعام ظل للجيعان (١) وكل ما يقوم بحاجة شخص ظل له ، وفي الخبر السلطان ظل الله تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم ، وقيل : الظلال الأولياء يستظل بهم المريدون من شدة حر الهجران ويأوون إليهم من قهر الطغيان ، وقد يؤول قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) بنحو هذا فما أشبه الأولياء بالجبال (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) فيه إشارة إلى ما جعل للعارفين من سرابيل روح الأنس لئلا يحترقوا بنيران القدس وأشار تعالى بقوله جل جلاله : (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) إلى ما من به من المعرفة والمحبة ليدفع بذلك كيد الشياطين والنفوس (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) تنقادون لأمره سبحانه في العبودية وتخضعون لعز الربوبية ، قال ابن عطاء : تمام النعمة السكون إلى المنعم ، وقال حمدون : تمامها في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية ، وقال أبو محمد الحريري : تمامها خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة النفس من الرياء والسمعة (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) وهي هداية النبي أو وجوده بقوة الفطرة (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) لعنادهم وغلبة صفات نفوسهم (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) لشهادة فطرهم بحقيقته (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار عن التخلف عن دعوته إذ لا عذر لهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) لأنهم قد حق عليهم القول بمقتضى استعدادهم نسأل الله تعالى العفو والعافية (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) قيل : هذا في الموقف الثاني حين تضعف غواشي أنفسهم المظلمة وترق حجبها الكثيفة وأما في الموقف الأول حين قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة فلا يستسلمون كما يشير إليه قوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) وقيل : المستسلمون بعض والحالفون بعض فافهم والله تعالى أعلم.
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً
__________________
(١) قوله الجيعان كذا بالأصل وحقه «جوعان».