الشيطانية والعقلية الملكية ، وهذه الأخيرة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها لأنها من جوهر الملائكة عليهمالسلام ونتائج الأرواح القدسية العلوية وإنما المحتاج إلى التهذيب الثلاثة قبلها ، ولما كانت الأولى أعني القوة الشهوانية إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وكان هذا النوع مخصوصا باسم الفحش ـ ألا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة ـ أشار إلى تهذيبها بقوله سبحانه : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) المراد منه المنع من تحصيل الذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة ، ولما كانت الثانية أعني القوة الغضبية السبعية تسعى أبدا في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس أشار سبحانه إلى تهذيبها بنهيه تعالى عن المنكر إذ لا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية ، ولما كانت الثالثة أعني القوة الوهمية الشيطانية تسعى أبدا في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرئاسة والتقدم أشار سبحانه إلى تهذيبها بالنهي عن البغي إذ لا معنى له إلا التطاول والترفع على الناس ، ثم قال : ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا : أخس هذه القوى الثلاث الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية ، والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ سبحانه بذكر الفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هي نتيجة القوة الوهمية اه. وما تقدم عن غير واحد مأخوذ من هذا ، ولينظر هل يثبت بما قرره دليل التخصيص فيندفع الاعتراض السابق أم لا ، ثم إن الظاهر عليه أن عطف البغي على ما قبله كعطف (إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) على ما قبله.
وبالجملة أن الآية كما أخرج البخاري في الأدب. والبيهقي في شعب الإيمان. والحاكم وصححه عن ابن مسعود أجمع آية للخير والشر ، وأخرج البيهقي عن الحسن نحو ذلك ، وأخرج الباوردي. وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال : بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فأتيا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالا : نحن رسل أكتم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : أنا محمد بن عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ) إلخ قالوا : ردد علينا هذا القول فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوه فأتيا أكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال : إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مذامها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا. وقد صارت هذه الآية أيضا كما أخرج أحمد والطبراني والبخاري في الأدب عن ابن عباس سبب استقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبته للنبي صلىاللهعليهوسلم ولجمعها ما جمعت أقامها عمر بن عبد العزيز حين آلت الخلافة إليه مقام ما كان بنو أمية غضب الله تعالى عليهم يجعلونه في أواخر خطبهم من سب علي كرم الله تعالى وجهه ولعن كل من بغضه وسبه وكان ذلك من أعظم مآثره رضي الله تعالى عنه ، وقال غير واحد : لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى. ولعل إيرادها عقيب قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) للتنبيه عليه فإنها إذا نظر إلى أنها قد جمعت ما جمعت مع وجازتها استيقظت عيون البصائر وتحركت للنظر فيما عداها وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله جالسا إذ شخص بصره فقال : أتاني. جبريل عليهالسلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع إن الله يأمر إلخ.
واستدل بها على أن صيغة تتناول الواجب والمندوب وموضوعها القدر المشترك وتحقيق ذلك في الأصول.
(يَعِظُكُمْ) أي ينبهكم بما يأمر وينهى سبحانه أحسن تنبيه ، وهو إما استئناف وإما حال من الضمير في الفعلين (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) طلبا لأن تتعظوا بذلك وتنتبهوا.
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) قال قتادة. ومجاهد : نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر أنها نزلت في بيعة النبي صلىاللهعليهوسلم كان من أسلم بايع على