فقال للملك : كيف رأيت صنع الله تعالى فيما خولني فما ترى في هؤلاء؟ فقال الملك : الرأي رأيك ونحن لك تبع فقال : إني أشهد الله تعالى وأشهدك أني قد أعتقتهم ورددت إليهم أملاكهم.
ولعل الحكمة في ذلك إظهار قدرته وكرمه وانقيادهم بعد ذلك لأمره حتى يخلص إيمانهم ويتبعوه فيما يأمرهم به فلا يقال : ما الفائدة في تحصيل ذلك المال العظيم ثم إضاعته؟ وكان عليهالسلام في تلك المدة فيما يروى لا يشبع من الطعام فقيل له : أتجوع وخزائن الأرض بيدك؟ فقال : أخاف إن شبعت أنسى الجائع وأمر عليهالسلام طباخي الملك أن يجعلوا غذاءه نصف النهار وأراد بذلك أن يذوق طعم الجوع فلا ينسى الجياع ، قيل : ومن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار ، وقد أشار سبحانه إلى ما آتاه من الملك العظيم بقوله جل وعلا : (وَكَذلِكَ) أي مثل التمكين البديع (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أي جعلنا له مكانا (فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر ، روي أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين ، وفي التعبير عن الجعل المذكور بالتمكين في الأرض مسندا إلى ضميره تعالى من تشريفه عليهالسلام والمبالغة في كمال ولايته والإشارة إلى حصول ذلك من أول الأمر لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى ، واللام في (لِيُوسُفَ) على ما زعم أبو البقاء يجوز أن تكون زائدة أي مكنا يوسف وأن لا تكون كذلك والمفعول محذوف أي مكنا له الأمور ، وقد مر لك ما يتضح منه الحق (يَتَبَوَّأُ مِنْها) ينزل من قطعها وبلادها (حَيْثُ يَشاءُ) ظرف ليتبوأ ، وجوز أن يكون مفعولا به كما في قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] و (مِنْها) متعلق بما عنده ، وقيل : بمحذوف وقع حالا من حيث. وتعقب بأن (حَيْثُ) لا يتم إلا بالمضاف إليه وتقديم الحال على المضاف إليه لا يجوز ، والجملة في موضع الحال من يوسف وضمير (يَشاءُ) له ، وجوز أن يكون لله تعالى ففيه التفات ، ويؤيده أنه قرأ ابن كثير والحسن وبخلاف عنهم أبو جعفر وشيبة ونافع «نشاء» بالنون فإن الضمير على ذلك لله تعالى قطعا (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا) بنعمتنا وعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم ، وقيل : المراد بالرحمة النبوة وليس بذاك (مَنْ نَشاءُ) بمقتضى الحكمة الداعية للمشيئة (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بل نوفي لهم أجورهم في الدنيا لإحسانهم ، والمراد به على ما قيل : الإيمان والثبات على التقوى فإن قوله سبحانه : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) قد وضع فيه الموصول موضع ضمير (الْمُحْسِنِينَ) وجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل تنبيها على ذلك ، والمعنى ولأجرهم في الآخرة خير ، والإضافة فيه للملابسة ، وجعل في تعقيب الجملة الثالثة المؤكدة بعد المنفية إشعار بأن مدار المشيئة المذكورة إحسان من تصيبه الرحمة المذكورة ، وفي ذكر الجملة الثالثة المؤكدة بعد دفع توهم انحصار ثمرات الإحسان فيما ذكر من الأجر العاجل ، ويفهم من ذلك أن المراد ـ ممن نشاء ـ من نشاء أن نصيبه بالرحمة من عبادنا الذين آمنوا واستمروا على التقوى. وتعقب بأنه خلاف الظاهر ، ولعل الظاهر حمل (مَنْ) على ما هو أعم مما ذكر وحينئذ لا يبعد أن يراد بالرحمة النعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال وبالأجر ما كان في مقابلة شيء من ذلك ، يبقى أمر وضع الموصول موضع الضمير على حاله كأنه قيل : نتفضل على من نشاء من عبادنا كيف كانوا وننعم عليهم بالملك والغنى وغيرهما لا في مقابلة شيء ونوفي أجور المؤمنين المستمرين على التقوى منهم ونعطيهم في الدنيا ما نعطيهم في مقابلة إيمانهم واستمرارهم على التقوى وما نعطيهم في مقابلة ذلك في الآخرة من النعيم العظيم المقيم خير لهم مما نعطيهم في الدنيا لعظمه ودوامه.
واعترض بأن فيه إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من نحو الملك والغنى مع أنه ليس برحمة كما يشعر به كثير من الآيات ويقتضيه قولهم : ليس لله تعالى نعمة على كافر. وأجيب بأن قولهم : في «الرحمن» أنه الذي يرحم المؤمن والكافر في الدنيا ظاهر في صحة إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من ذلك ، وكذا قوله تعالى : (وَما