أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ظاهر في صحة القول بكون الكافر مرحوما في الجملة وأمر الإشعار سهل ، وقولهم : ليس لله تعالى نعمة على كافر إنما قاله البعض بناء على أخذ ـ يحمد عاقبتها ـ في تعريفها. وإن أبيت ولا أظن فلم لا يجوز أن يقال : إنه عبر عما ذكر بالرحمة رعاية لجانب من اندرج في عموم «من» من المؤمنين.
نعم يرد على تفسير الرحمة هنا بالنعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال والأجر بما كان ما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق وتلا الآية فإنه ظاهر في أن ما يصيب الكافر مما تقدم في مقابلة عمل له وأن في الآية ما يدل على ذلك وليس هو إلا (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) وقد يجاب بأنه لعله حمل (الْمُحْسِنِينَ) على ما يشمل الكفار الفاعلين لما يحسن كصلة الرحم ونصرة المظلوم وإطعام الفقير ونحو ذلك ، فحصر الدلالة فيما ذكر ممنوع نعم إن هذا الأثر يعكر على التفسير السابق عكرا بينا إذا الآية عليه لا تعرض فيها للكافر أصلا فلا معنى لتلاوتها إثر ذلك الكلام.
وعمم بعضهم الأوقات في (نُصِيبُ وَلا نُضِيعُ) فقال نصيب في الدنيا والآخرة ولا نضيع أجر المحسنين بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا ، وأيد بأنه لا موجب للتخصيص وأن خبر سفيان يدل على العموم وتعقب بأن من خص ذلك بالدنيا فإنما خصه ليكون ما بعده تأسيسا وبأنه لا دلالة للخبر على ذلك لأنه مأخوذ من مجموع الآية وفيه ما فيه. وعن ابن عباس تفسير (الْمُحْسِنِينَ) بالصابرين ، ولعله رضي الله تعالى عنه على تقدير صحة الرواية رأى ذلك أوفق بالمقام. وأيّا ما كان في الآية إشارة إلى أن ما أعد الله تعالى ليوسف عليهالسلام من الأجر والثواب في الآخرة أفضل مما أعطاه في الدنيا من الملك.
(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) ممتارين لما أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر ، وقد كان حل بآل يعقوب عليهالسلام ما حل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم : يا بني بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه تشتروا منه ما تحتاجون إليه فخرجوا حتى قدموا مصر (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) عليهالسلام وهو في مجلس ولايته (فَعَرَفَهُمْ) لقوة فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة أحوالهم يوم المفارقة لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيئاتهم وزيهم في الحالين ، ولكون همته معقودة بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط ، ولعله عليهالسلام كان مترقبا مجيئهم إليه لما يعلم من تأويل رؤياه. وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم وأمر بإنزالهم ، ولذلك قال الحسن : ما عرفهم حتى تعرفوا إليه. وتعقب ذلك في الانتصاف بأن توسيط الفاء بين دخولهم عليه ومعرفته لهم يأبى كلام الحسن ويدل على أن مجرد دخولهم عليه استعقبه المعرفة بلا مهلة وفيه تأمل.
(وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي والحال أنهم منكرون له لنسيانهم له بطول العهد وتباين ما بين حاليه في نفسه ومنزلته وزيه ولاعتقادهم أنه هلك ، وقيل : إنما لم يعرفوه لأنه عليهالسلام أوقفهم موقف ذوي الحاجات بعيدا منه وكلمهم بالواسطة ، وقيل : إن ذلك لمحض أنه سبحانه لم يخلق العرفان في قلوبهم تحقيقا لما أخبر أنه سينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون فكان ذلك معجزة له عليهالسلام ، وقابل المعرفة بالإنكار على ما هو الاستعمال الشائع ، فعن الراغب المعرفة والعرفان معرفة الشيء بتفكر في أثره فهو أخص من العلم ، وأصله من عرفت أي أصبت عرفه أي رائحته ويضاد المعرفة الإنكار والعلم الجهل ، وحيث كان إنكارهم له عليهالسلام أمرا مستمرا في حالتي المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الاسمية بخلاف عرفانه عليهالسلام إياهم.
(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله ، ولعله عليهالسلام إنما باع كل