هذا الجواب يؤيده هذا المعنى لأن قولهم : (لَنْ نَبْرَحَ) إلخ يدل على عكوفهم حال قوله عليهالسلام وهم لم يعكفوا على عبادته قبل قول السامري وإنما عكفوا بعده.
وقال الطيبي : إن جوابهم هذا من باب الأسلوب الأحمق نقيض الأسلوب الحكيم لأنهم قالوه عن قلة مبالاة بالأدلة الظاهرة كما قال نمروذ في جواب الخليل عليهالسلام (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فتأمل ، واستدل أبو حيان بهذا التغيي على أن ـ لن ـ لا تفيد التأبيد لأن التغيي لا يكون إلا حيث يكون الشيء محتملا فيزال الاحتمال به.
وأنت تعلم أن القائل بافادتها ذلك لا يدعي أنها تفيده في كل الموارد وهو ظاهر ، وفي بعض الأخبار أنهم لما قالوا ذلك اعتزلهم هارون عليهالسلام في اثني عشر ألفا وهم الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى عليهالسلام وسمع الصياح وكانوا يسجدون إذا خار العجل فلا يرفعون حتى يخور ثانية ، وفي رواية كانوا يرقصون عند خواره قال للسبعين الذين كانوا معه : هذا صوت الفتنة حتى إذا وصل قال لقومه ما قال وسمع منهم ما قالوا.
وقوله تعالى : (قالَ) استئناف نشأ من حكاية جوابهم السابق أعني قوله تعالى (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ) إلخ كأنه قيل : فما ذا قال موسى لهارون عليهماالسلام حين سمع جوابهم وهل رضي بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد؟ فقيل : قال له وهو مغتاظ قد أخذ بلحيته ورأسه (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) بعبادة العجل ولم يلتفتوا إلى دليل بطلانها (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي تتبعني على أن (لا) سيف خطيب كما في قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] وهو مفعول ثان لمنع وإذ متعلق بمنع ، وقيل : بتتبعني ، ورد بأن ما بعد ـ أن ـ لا يعمل فيما قبلها ، وأجيب بأن الظرف يتوسع فيه ما لم يتوسع في غيره وبأن الفعل السابق لما طلبه على أنه مفعول ثان له كان مقدما حكما وهو كما ترى أي أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من أن تتبعني وتسير بسيري في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به وروي ذلك عن مقاتل ، وقيل : في الإصلاح والتسديد ولا يساعده ظاهر الاعتذار ، واستظهر أبو حيان أن يكون المعنى ما منعك من أن تلحقني إلى جبل الطور بمن آمن من بني إسرائيل ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكان موسى عليهالسلام رأى أن مفارقة هارون لهم وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية أزجر لهم من الاقتصار على النصائح لما أن ذلك أدل على الغضب وأشد في الإنكار لا سيما وقد كان عليهالسلام رئيسا عليهم محبوبا لديهم وموسى يعلم ذلك ومفارقة الرئيس المحبوب كراهة لأمر تشق جدا على النفوس وتستدعي ترك ذلك الأمر المكروه له الذي يوجب مفارقته وهذا ظاهر لا غبار عليه عند من أنصف.
فالقول بأن نصائح هارون عليهالسلام حيث لم تزجرهم عما كانوا عليه فلأن لا تزجرهم مفارقته إياهم عنه أولى على ما فيه لا يرد على ما ذكرنا ؛ ولا حاجة إلى الاعتذار بأنهم إذا علموا أنه يلحقه ويخبره عليهماالسلام بالقصة يخافون رجوع موسى عليهالسلام فينزجرون عن ذلك ليقال : إنه بمعزل عن القبول كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى حين رجوعه عليهالسلام ، وقال علي بن عيسى : إن (لا) ليست مزيدة ، والمعنى ما حملك على عدم الاتباع فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) بسياستهم حسب ما ينبغي فإن قوله عليهالسلام (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) بدون ضم قوله (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف : ١٤٢] متضمن للأمر بذلك حتما فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرا وموسى عليهالسلام لو كان حاضرا لساسهم على أبلغ وجه ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألم تتبعني أو أخالفتني