وفي الانتصاف أن في الآية سرا بديعا من البلاغة يسمى قطع النظير عن النظير ، والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم ولو قرن كل بشكله لتوهم المقرونان نعمة واحدة ، وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال الكندي (١) الأول :
كأني لم أركب جوادا للذة |
|
ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال |
ولم أسبإ الزقّ الرويّ ولم أقل |
|
لخيلي كرّي كرة بعد إجفال |
فقطع ركوب الجواد عن قوله لخيله : كري كرة وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس مع التناسب وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها ، وتبعه الكندي (٢) الآخر فقال :
وقفت وما في الموت شك لواقف |
|
كأنك في جفن الردى وهو نائم |
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة |
|
ووجهك ضحاك وثغرك باسم |
وقد اعترض عليه سيف الدولة إذ قطع الشيء عن نظيره فقال له : إن كنت أخطأت بذلك فقد أخطأ امرؤ القيس بقوله وأنشد البيتين السابقين ، وفي الآية سر لذلك أيضا زائد على ما ذكر وهو قصد تناسب الفواصل اه.
وقد يقال في بيتي الأول : إنه جمع بين ركوب الخيل للذة والنزهة وتبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما وجمع بين سبء الزق وقوله لخيله : كري لما فيهما من الشجاعة ، ثم ما ذكر من قصد تناسب الفواصل في الآية ظاهر في أنه لو عدل عن هذا الترتيب لم يحصل ذلك وهو غير مسلم.
وقرأ شيبة ونافع وحفص وابن سعدان «إنك» بكسر الهمزة. وقرأ الجمهور بفتحها على أن العطف على أن لا تجوع وهو في تأويل مصدر اسم لأن وصحة وقوع ما صدر بأن المفتوحة اسما لأن المكسورة المشاركة لها في إفادة التحقيق مع امتناع وقوعها خبرا لها لما أن المحذور وهو اجتماع حرفي التحقيق في مادة واحدة غير موجود فيما نحن فيه لاختلاف مناط التحقيق فيما في حيزها بخلاف ما لو وقعت خبرا فإن اتحاد المناط حينئذ مما لا ريب فيه ، وبيانه على ما في إرشاد العقل السليم أن كل واحدة من الأداتين موضوعة لتحقيق مضمون الجملة الخبرية المنعقدة من اسمها وخبرها ولا يخفى أن مرجع خبريتها ما فيها من الحكم وإن مناطه الخبر لا الاسم فمدلول كل منهما تحقيق ثبوت خبرها لاسمها لا ثبوت اسمها في نفسه فاللازم من وقوع الجملة المصدرة بالمفتوحة اسما للمكسورة تحقيق ثبوت خبرها لتلك الجملة المؤولة بالمصدر ، وأما تحقيق ثبوتها في نفسها فهو مدلول المفتوحة فلا يلزم اجتماع حرفي التحقيق في مادة واحدة قطعا ، وإنما لم يجز أن يقال : إن أن زيدا قائم حق مع اختلاف المناط بل شرطوا الفصل بالخبر كقولنا : إن عندي أن زيدا قائم حق للتجافي عن صورة الاجتماع ، والواو العاطفة وإن كانت نائبة عن المكسورة التي يمتنع دخولها على المفتوحة بلا فصل وقائمة مقامها في إفضاء معناها وإجراء أحكامها على مدخولها لكنها حيث لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق لم يلزم من دخولها اجتماع حرفي التحقيق أصلا. فالمعنى إن لك عدم الجوع وعدم العري وعدم الظمأ خلا أنه لم يقتصر على بيان أن الثابت له عدم الظمأ والضحو مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه بل قصد بيان أن الثابت له تحقيق عدمهما فوضع موضع الحرف المصدري المحض أن المفيدة له كأنه قيل : إن
__________________
(١) هو امرؤ القيس اه منه.
(٢) هو المتنبي اه منه.