إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع ألا ترى أنه قال تعالى : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) دون ألقى الشيطان على لسانه ، وتسمية القراءة أمنية لما أن القارئ يقدر الحروف في قلبه أولا ثم يذكرها شيئا فشيئا ، وأيضا حفظه صلىاللهعليهوسلم لذلك إلى أن أمسى كما جاء في بعض الروايات فنبهه عليه جبريل عليهماالسلام يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط ، على أنا لو سلمنا ذلك وقلنا : إن الشيطان ألقى على لسانه صلىاللهعليهوسلم ولم يلق في قلبه كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] وقلنا : إن ذلك مما يعقل للزم أن يعلم صلىاللهعليهوسلم من خلو قلبه واشتغال لسانه على أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليهالسلام ، والقول بأنه لبس الحال عليه عليه الصلاة والسلام للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبودية وهو فناء إرادته صلىاللهعليهوسلم في إرادة مولاه عزوجل حيث تمنى إيمان الكل وحرص عليه ولم يكن مراد الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥] ولا شك أن التأديب به لم يبق ولم يذر ولم يقرن بما فيه تسلية أصلا فإذا قيل والعياذ بالله تعالى : إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه ، وأيضا أية دلالة في الآية على التأديب وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات ، ولا نسلم أن ترتيب الإلقاء على التمني مع ما في السباق والسياق مما يدل على التسلية عن ذلك يجدي نفعا في هذا الباب كما لا يخفى على ذوي الألباب.
ويرد على قوله : إنه بعد حصول التأديب بما ذكر كان يرسل من بين يديه ومن خلفه رصد يحفظونه من إلقاء الشيطان أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) [الجن : ٢٧] قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان بالملك ، وقد ذكروا أن ـ كان ـ في ذلك للاستمرار.
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال : ما جاء جبريل عليهالسلام بالقرآن إلى النبي صلىاللهعليهوسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة ، وهذا صريح في ذلك ولا شك أن هذا الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي ، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا : إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنوا منه فبينما هو يتلوها وهو يقول (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجودا مع عدم ترتب أثره عليه ؛ والقول بأن جبريل عليهالسلام ومن معه تنحوا عنه حتى ألقى الشيطان ما ألقى بناء على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في آية الرصد : كان النبي صلىاللهعليهوسلم قبل أن يلقي الشيطان في أمنيته يدنون منه فلما ألقى الشيطان في أمنيته أمرهم أن يتنحوا عنه قليلا فإن المراد من قوله : فيه فلما ألقى فلما أراد أن يلقي في حيز المنع وكذا صحة هذا الخبر ، ثم أية فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ بل كيف يسمى رصدا. ومما ذكر في هذا الاعتراض يعلم ما في الجواب الثاني من الاعتراض وهو ظاهر ، وقد يقال : إن إعجاز القرآن معلوم له صلىاللهعليهوسلم ضرورة كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري بل قال القاضي : إن كل بليغ أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه ، وذكر أن الإعجاز يتعلق بسورة أو قدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوي البلاغة فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فهو معجز ، وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن والإنس ولو كان