وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.
وفي هذا دليل واضح على أنهم عرفوه صلىاللهعليهوسلم بغاية الكمال وإلا لأنكروا قول أبي طالب فيه عليه الصلاة والسلام ما قال.
(فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) الفاء سببية لتسبب الإنكار عن عدم المعرفة فالجملة داخلة في حيز الإنكار ومآل المعنى هم عرفوه بالكمال اللائق بالأنبياء عليهمالسلام فكيف ينكرونه ، واللام للتقوية ، وتقديم المعمول للتخصيص أو الفاصلة ، والكلام على تقدير مضاف أي منكرون لدعواه أو لرسالته عليه الصلاة والسلام.
(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أي بل أيقولون به جنة أي جنون مع أنه عليه الصلاة والسلام أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا وأوفرهم رزانة ، وقد روعي في هذه التوبيخات الأربع التي اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به عليه الصلاة والسلام الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما يبينه شيخ الإسلام ، وقوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) إضراب عما يدل عليه ما سبق أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول صلىاللهعليهوسلم بل جاءهم بالحق أي بالصدق الثابت الذي لا محيد عنه ، والمراد به التوحيد ودين الإسلام الذي تضمنه القرآن ويجوز أن يراد به القرآن.
(وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لما في جبلتهم من كمال الزيغ والانحراف ، والظاهر أن الضمائر لقريش ، وتقييد الحكم بأكثرهم لأن منهم من أبى الإسلام واتباع الحق حذرا من تعيير قومه أو نحو ذلك لا كراهة للحق من حيث هو حق ، فلا يرد ما قيل : إن من أحب شيئا كره ضده فمن أحب البقاء على الكفر فقد كره الانتقال إلى الإيمان ضرورة ، وقال ابن المنير : يحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي وفيه بعد ، وكذا ما اختاره من كون ضمير (أَكْثَرُهُمْ) للناس كافة لا لقريش فيكون الكلام نظير قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وقد يقال : حيث كان المراد إثبات الكراهة للحق على سبيل الاستمرار وعلم الله تعالى أن فيهم من يؤمن ويتبع الحق لم يكن بد من تقييد الحكم بالأكثر ، والظاهر بناء على القاعدة الأغلبية في إعادة المعرفة أن الحق الثاني عين الحق الأول ، وأظهر في مقام الإضمار لأنه أظهر في الذم والضمير ربما يتوهم عوده للرسول عليه الصلاة والسلام ، وقيل : اللام في الأول للعهد وفي الثاني للاستغراق أو للجنس أي وأكثرهم للحق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبئ عنه الإظهار كارهون ، وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة بعضهم لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق وفيه بحث إذ لا يكاد يسلم أن أكثرهم كارهون لكل حق ، وكذا الظاهر أن يراد بالحق في قوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) الحق الذي جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم وجعل الاتباع حقيقيا والإسناد مجازيا ، وقيل ما آل المعنى لو اتبع النبيصلىاللهعليهوسلم أهواءهم فجاءهم بالشرك بدل ما أرسل به (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) أي لخرب الله تعالى العالم وقامت القيامة لفرط غضبه سبحانه وهو فرض محال من تبديله عليه الصلاة والسلام وما أرسل به من عنده ، وجوز أن يكون المراد بالحق الأمر المطابق للواقع في شأن الألوهية والاتباع مجازا عن الموافقة أي لو وافق الأمر المطابق للواقع أهواءهم بأن كان الشرك حقا لفسدت السموات والأرض حسبما قرر في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ولعل الكلام عليه اعتراض للإشارة إلى أنهم كرهوا شيئا لا يمكن خلافه أصلا فلا فائدة لهم في هذه الكراهة.