وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويونس عن أبي عمرو «بل أتيتهم» بتاء المتكلم ، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء «بل أتيتهم» بتاء الخطاب للرسول صلىاللهعليهوسلم وأبو عمرو وفي رواية «أتيناهم» بالمد ولا حاجة على هذه القراءة إلى ارتكاب مجاز أو دعوى حذف مضاف كما في قراءة الجمهور على تقدير جعل الباء للمصاحبة وقرأ قتادة «نذكرهم» بالنون مضارع ذكر (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) متعلق بقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) فهو انتقال إلى توبيخ آخر ، وغير للخطاب لمناسبته ما بعده ، وكان المراد أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة (خَرْجاً) أي جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك ، وقوله تعالى : (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي رزقه في الدنيا وثوابه في الآخرة تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والعقبى خير من ذلك لسعته ودوامه وعدم تحمل منة الرجال فيه ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تعليل الحكم وتشريفه صلىاللهعليهوسلم ما لا يخفى.
و «الخرج» بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله تعالى ، وكذا على ما قيل من أن الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك واللزوم بالنسبة إليه تعالى إنما هو لفضل وعده عزوجل ، وقيل الخرج أعم من الخراج وساوى بينهما بعضهم.
وقرأ عامر «خرجا فخرج» وحمزة والكسائي «خراجا فخراج» للمشاكلة وقرأ الحسن وعيسى «خرجا فخرج» وكأن اختيار (خَرْجاً) في جانبه عليه الصلاة والسلام للإشارة إلى قوة تمكنهم في الكفر واختيار «خرجا» في جانبه تعالى للمبالغة في حط قدر خراجهم حيث كان المعنى فالشيء القليل منه عزوجل خير من كثيرهم فما الظن بكثيره جل وعلا (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تأكيد لخيرية خراجه سبحانه وتعالى فإن من كان خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره.
واستدل الجبائي بذلك على أنه سبحانه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده وعلى أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تشهد العقول السليمة باستقامته ليس فيه شائبة اعوجاج توجب الاتهام ، قال الزمخشري : ولقد ألزمهم عزوجل الحجة وأزاح عللهم في هذه الآيات بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله تعالى بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حفظهم من الذكر ا ه. وهو من الحسن بمكان.
(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) هم كفرة قريش المحدث عنهم فيما مر وصفوا بذلك تشنيعا لهم مما هم عليه من الانهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة بعدها وإشعار بعلة الحكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله ، وجوز أن يكون المراد بهم ما يعمهم وغيرهم من الكفرة المنكرين للحشر ويدخلون في ذلك دخولا أوليا (عَنِ الصِّراطِ) المستقيم الذي تدعو إليه (لَناكِبُونَ) أي لعادلون ، وقيل : المراد بالصراط جنسه أي إنهم عن جنس الصراط فضلا عن الصراط المستقيم الذي تدعوهم إليه لناكبون ، ورجح بأنه أدل على كمال ضلالهم وغاية غوايتهم لما أنه ينبئ عن كون ما ذهبوا إليه مما لا يطلق عليه اسم الصراط