الأضواء والألوان والأكوان والأشكال وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك به أنواع شتى من التصورات والتصديقات. وفي الآية إشارة إلى الدليل الحسي والعقلي ، وتقديم ما يشير إلى الأول قد تقدم فتذكر فما في العهد من قدم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي شكرا قليلا تشكرون تلك النعم الجليلة لأن العمدة في الشكر صرف تلك القوى التي هي في أنفسها نعم باهرة إلى ما خلقت هي له فنصب (قَلِيلاً) على أنه صفة مصدر محذوف ، والقلة على ظاهرها بناء على أن الخطاب للناس بتغليب المؤمنين ، وجوز أن تكون بمعنى النفي بناء على أن الخطاب للمشركين على سبيل الالتفات ، وقيل : هو للمؤمنين خاصة وليس بشيء ، والأولى عندي للمشركين خاصة مع جواز كون القلة على ظاهرها كما لا يخفى على المتدبر ؛ و (ما) علا سائر الأقوال مزيدة للتأكيد.
(وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي خلقكم وبثكم فيها (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم لا إلى غيره تعالى فما لكم لا تؤمنون به سبحانه وتشكرونه عزوجل (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) من غير أن يشاركه في ذلك شيء من الأشياء (وَلَهُ) تعالى شأنه خاصة (اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي هو سبحانه وتعالى المؤثر في اختلافهما أي تعاقبهما من قولهم : فلان يختلف إلى فلان أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب أو تخالفهما زيادة ونقصا ، وقيل : المعنى لأمره تعالى وقضائه سبحانه اختلافهما ففي الكلام مضاف مقدر ، واللام عليه يجوز أن تكون للتعليل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أو أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر والتأمل أن الكل صار منا وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات التي من جملتها البعث ، وقرأ أبو عمرو في رواية «يعقلون» على أن الالتفات إلى الغيبة لحكاية سوء حال المخاطبين ، وقيل : على أن الخطاب الأول لتغليب المؤمنين وليس بذاك.
(بَلْ قالُوا) عطف على مضمر يقتضيه المقام أي فلم يعقلوا بل قالوا (مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي آباؤهم ومن دان بدينهم من الكفرة المنكرين للبعث (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) تفسير لما قبله من المبهم وتفصيل لما فيه من الإجمال وقد مر الكلام فيه (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) البعث (مِنْ قَبْلُ) متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى المعطوف عليه والمعطوف على ما هو الظاهر ، وصح ذلك بالنسبة إليهم لأن الأنبياء المخبرين بالبعث كانوا يخبرون به بالنسبة إلى جميع من يموت ، ويجوز أن يكون متعلقا به من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم أي ووعد آباؤنا من قبل أو بمحذوف وقع حالا من آبائنا أي كائنين من قبل (إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أكاذيبهم التي سطروها جمع أسطورة كأحدوثة وأعجوبة وإلى هذا ذهب المبرد وجماعة ، وقيل : جمع أسطار جمع سطر كفرس وأفراس ، والأول كما قال الزمخشري أوفق لأن جمع المفرد أولى وأقيس ولأن بنية أفعولة تجيء لما فيه التلهي فيكون حينئذ كأنه قيل مكتوبات لا طائل تحتها (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) من المخلوقات تغليبا للعقلاء على غيرهم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جوابه محذوف ثقة بدلالة الاستفهام عليه أي إن كنتم من أهل العلم ومن العقلاء أو عالمين بذلك فأخبروني به. وفي الآية من المبالغة في الاستهانة بهم وتقرير فرط جهالتهم ما لا يخفى.
ويقوي هذا أنه أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال سبحانه : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فإن بداهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه سبحانه خلقها فاللام للملك باعتبار الخلق (قُلْ) أي عند اعترافهم بذلك تبكيتا لهم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أتعلمون أو أتقولون ذلك فلا تتذكرون أي من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إعادتها ثانيا فإن البدء ليس بأهون من الإعادة بل الأمر بالعكس في قياس المعقول. وقرئ «تتذكرون» على الأصل (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أعيد لفظ الرب تنويها بشأن العرش ورفعا لمحله من أن يكون تبعا للسماوات وجودا وذكرا ، وقرأ ابن محيصن «العظيم» بالرفع نعتا للرب.