(يَعْلَمُونَ) فتأمل لتعرف كيفية الاستدلال على ذلك فإن فيه خفاء لا سيما مع ملاحظة الحصر المأخوذ من تعريف الطرفين وضمير الفصل ، وقيل : إن علم الخلق بصفاته تعالى يوم القيامة ضروري : وإن تفاوتوا في ذلك من بعض الوجوه فيعلمون ما ذكر من غير مدخلية أحد الأمرين ، ولعل فائدة هذا العلم يأسهم من إنقاذ أحد إياهم مما هم فيه أو انسداد باب الاعتراض المروح للقلب في الجملة عليهم أو تبين خطئهم في رميهم حرم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالباطل لما أن حقيته تأبى كونه عزوجل حقا أي موجدا للأشياء بحسب ما تقتضيه الحكمة لما قدمنا من أن فجور زوجات الأنبياء عليهمالسلام مخل بحكمة البعثة ، وكذا تأبى كونه عزوجل حقا أي واجبا لذاته بناء على أن الوجوب الذاتي يستتبع الإنصاف بالحكمة بل بجميع الصفات الكاملة ، وهذه الجملة ظاهرة جدا في أن الآية في ابن أبيّ وأضرابه من المنافقين الرامين حرم الرسول صلىاللهعليهوسلم لأن المؤمن عالم أن الله تعالى هو الحق المبين منذ كان في الدنيا لا أنه يحدث له علم ذلك يوم القيامة. ومن ذهب إلى أنها في الرامين من المؤمنين أو فيهم وفي غيرهم من المنافقين قال : يحتمل أن يكون المراد من العلم بذلك التفات الذهن وتوجهه إليه ولا يأبى ذلك كونه حاصلا قبل. قد حمل السيد السند قدسسره في حواشي المطالع العلم في قولهم في تعريف الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر على ذلك لئلا يرد أنه يلزم على الظاهر أن لا يكون للفظ دلالة عند التكرار لامتناع علم المعلوم ويحتمل أن يكون قد نزل علمهم الحاصل قبل منزلة غير الحاصل لعدم ترتب ما يقتضيه من الكف عن الرمي عليه ومثل هذا التنزيل شائع في الكتاب الجليل ، ويحتمل أن يكون المراد يعلمون عيانا مقتضى أن الله هو الحق المبين. أعني الانتقام من الظالم للمظلوم. ويحتمل غير ذلك.
وأنت تعلم أن الكل خلاف الظاهر فتدبر ، وقوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ) إلخ كلام مستأنف مؤسس على السنة الجارية فيما بين الخلق على موجب أن لله تعالى ملكا يسوق الأهل إلى الأهل ، وقول القائل : «إن الطيور على أشباهها تقع» أي الخبيثات من النساء (لِلْخَبِيثِينَ) من الرجال أي مختصات بهم لا يتجاوزنهم إلى غيرهم على أن اللام للاختصاص (وَالْخَبِيثُونَ) أيضا (لِلْخَبِيثاتِ) لأن المجانسة من دواعي الانضمام (وَالطَّيِّباتُ) منهن (لِلطَّيِّبِينَ) منهم (وَالطَّيِّبُونَ) أيضا (لِلطَّيِّباتِ) منهن بحيث لا يتجاوزونهن إلى من عداهن وحيث كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم أطيب الأطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين كون الصديقة رضي الله تعالى عنها من أطيب الطيبات بالضرورة واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات حسبما نطق به قوله سبحانه : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) على أن الإشارة إلى أهل البيت النبوي رجالا ونساء ويدخل في ذلك الصديقة رضي الله تعالى عنها دخولا أوليا ، وقيل : إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم والصديقة وصفوان وقال الفراء : إشارة إلى الصديقة وصفوان والجمع يطلق على ما زاد على الواحد.
وفي الآية على جميع الأقوال تغليب أي أولئك منزهون مما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة. وجعل الموصوف للصفات المذكورة النساء والرجال حسبما سمعت رواه الطبراني عن ابن عباس ضمن خبر طويل ورواه الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما واختاره أبو مسلم والجبائي وجماعة وهو الأظهر عندي وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها الطبراني أيضا وابن مردويه وغيرهما أن (الْخَبِيثاتُ) و (الطَّيِّباتُ) صفتان للكلم (وَالْخَبِيثُونَ) و (الطَّيِّبُونَ) صفتان للخبيثين من الناس وروي ذلك عن الضحاك والحسن و (الْخَبِيثُونَ) عليه شامل للرجال والنساء على سبيل التغليب وكذا (الطَّيِّبُونَ) و (أُولئِكَ) إشارة إلى الطيبين وضمير (يَقُولُونَ) للخبيثين ، وقيل للآفكين أي الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال والنساء أي مختصة ولاصقة بهم لا ينبغي أن تقال في حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحقاء بأن يقال في حقهم خبائث الكلم