الحق فلا يجدون طريقا موصلا إليه فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الحقة فالفاء في الموضعين سببية ومتعلق «ضلوا» منوي ولعل الأول أولى ، والمراد نفي أن يكون ما أتوا به قادحا في نبوته صلىاللهعليهوسلم ونفى أن يكون عندهم ما يصلح للقدح قطعا على أبلغ وجه فإن القدح فيها إنما يكون في القدح بالمعجزات الدالة عليها وما أتوا به لا يفيد ذلك أصلا وأنى لهم بما يفيده.
(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا شيئا خيرا لك مما اقترحوه وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور كذا في الكشاف ، وعن مجاهد إن شاء جعل لك جنات الآخرة وقصورا في الدنيا ولا يخفى ما فيه ، وقيل : المراد إن شاء جعل ذلك في الآخرة ، ودخلت (إِنْ) على فعل المشيئة تنبيها على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته تعالى وأنه معلق على محض مشيئته سبحانه وليس لأحد من العباد والعباد على الله عزوجل حق لا في الدنيا ولا في الآخرة ، والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم ، ولا يرد كما زعم ابن عطية قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) [الفرقان : ١١] كما ستعلمه إن شاء الله تعالى ، والظاهر أن الإشارة إلى ما اقترحوه من الكنز والجنة وخيرية ما ذكر من الجنة لما فيه من تعدد الجنة وجريان الأنهار والمساكن الرفيعة في تلك الجنان بأن يكون في كل منها مسكن أو في كل مساكن ومن الكنز لما أنه مطلوب لذاته بالنسبة إليه وهو إنما يطلب لتحصيل مثل ذلك وهو أيضا أظهر في الأبهة وأملأ لعيون الناس من الكنز ، وعدم التعرض لجواب الاقتراح الأول لظهور منافاته للحكمة التشريعية وربما يعلم من كثير من الآيات كذا قيل.
وفي إرشاد العقل السليم أن الإشارة إلى ما اقترحوه من أن يكون له صلىاللهعليهوسلم جنة يأكل منها و (جَنَّاتٍ) بدل من (خَيْراً) محقق لخيريته مما قالوا لأن ذلك كان مطلقا عن قيد التعدد وجريان الأنهار ، وتعليق ذلك بمشيئته تعالى للإيذان بأن عدم الجعل لعدم المشيئة المبنية على الحكم والمصالح ، وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين للتنبيه على خروجهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية وإنما الذي له وجه في الجملة هو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء عليهمالسلام قد أوتوا في الدنيا مع النبوة ملكا عظيما انتهى ، وهذا الذي ذكره في الإشارة جعله الإمام الرازي قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وما ذكر أولا استظهره أبو حيان وحكاه عن مجاهد ، وحكي عن ابن عباس أنها إشارة إلى ما عيروا به من أكل الطعام والمشي في الأسواق وقال : إنه بعيد ، وحكاه الإمام عن عكرمة وكأني بك تختار ما اختاره صاحب الإرشاد ، والظاهر أن (يَجْعَلْ) مجزوم فيكون معطوفا على محل الجزاء الذي هو جعل هو جزاء أيضا وقد جيء به جملة استقبالية على الأصل في الجزاء ، فقد ذكر أهل المعاني أن الأصل في جملتي إن الشرطية أن تكونا فعليتين استقباليتين لفظا كما أنهما مستقبلتان معنى ، والعدول عن ذلك في اللفظ لا يكون إلا لنكتة. وكأن التعبير على هذا بالجملتين الماضويتين لفظا في (إِنْ شاءَ جَعَلَ) إلخ لزيادة تبكيت الكفار فيما اقترحوا من جنسه ، ولما لم يقترحوا ما هو من جنس جعل القصور لم يسلك فيه ذلك المسلك فتدبر ، وقيل : كان الظاهر نعد التعبير أولا في الجزاء بالماضي أن يعبر به هنا أيضا لكنه عدل إلى المضارع لأن جعل القصور في الجنان مستقبل بالنسبة إلى جعل الجنان ، ثم إن هذا العطف يقتضي عدم دخول القصور في الخير المبدل منه قوله سبحانه : (جَنَّاتٍ) وكان ما تقدم عن الكشاف بيان لحاصل المعنى بمعونة السياق ، وجوز أن يكون مرفوعا أدغمت لامه في لام (لَكَ) لكن إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو مذهب أبي عمرو ، والذي قرأ بالتسكين من السبعة هو وحمزة والكسائي ونافع وفي رواية محبوب عنه أنه قرأ بالرفع بلا