عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس ، والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس والقنبرة تقول : اللهم العن مبغض محمد وآل محمد ، والزرزور يقول : اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق والدراج يقول : الرحمن على العرش استوى انتهى. ونظم الضفدع في سلك المذكورات من الطير ليس في محله ، ومع هذا الله تعالى أعلم بصحة هذه الحكاية. وقيل : كانت الطير تكلمه عليهالسلام معجزة له نحو ما وقع من الهدهد في القصة الآتية. وقيل : علم عليهالسلام ما تقصده الطير في أصواتها في سائر أحوالها فيفهم تسبيحها ووعظها وما تخاطبه به عليهالسلام وما يخاطب به بعضها بعضا. وبالجملة علم من منطقها ما علم الإنسان من منطق بني صنفه ، ولا يستبعد أن يكون للطير نفوس ناطقة ولغات مخصوصة تؤدي بها مقاصدها كما في نوع الإنسان إلا أن النفوس الإنسانية أقوى وأكمل ، ولا يبعد أن تكون متفاوتة تفاوت النفوس الإنسانية الذي قال به من قال.
ويجوز أن يعلم الله تعالى منطقها من شاء من عباده ولا يختص ذلك بالأنبياء عليهمالسلام ، ويجري ما ذكرناه في سائر الحيوانات وذهب بعض الناس إلى أن سليمان عليهالسلام علم منطقها أيضا إلا أنه نص على الطير لأنها كانت جندا من جنوده يحتاج إليها في التظليل من الشمس وفي البعث في الأمور ، ولا يخفى أن الآية لا تدل على ذلك فيحتاج القول به إلى نقل صحيح ، وزعم بعضهم أنه عليهالسلام علم أيضا منطق النبات فكان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها ، ولم أجد في ذلك خبرا صحيحا. وكثير من الحكماء من يعرف خواص النبات بلونه وهيئته وطعمه وغير ذلك. ولا يحتاج في معرفتها إلى نطقه بلسان القال. والضمير في (عُلِّمْنا) و (أُوتِينا) قيل : له ولأبيه عليهماالسلام وهو خلاف الظاهر. والأولى كونه له عليهالسلام ، ولما كان ملكا مطاعا خاطب رعيته على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة من التمهيد لما يراد من الرعية من الطاعة والانقياد في الأوامر والنواهي ولم يكن ذلك تعاظما وتكبرا منه عليهالسلام ، ومراعاة قواعد السياسة للتوصل بها إلى ما فيه رضا الله عزوجل من الأمور المهمة.
وقد أمر نبينا صلىاللهعليهوسلم العباس بحبس أبي سفيان حتى تمر عليه الكتائب يوم الفتح لذلك ، و (كُلِ) في الأصل للإحاطة وترد للتكثير كثيرا نحو قولك : فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء وهي كناية في ذلك أو مجاز مشهور ، وهذا المعنى هو المراد هنا إذا جعلت (مِنْ) صلة وهو المناسب لمقام التحدث بالنعم ، وإن لم تجعل صلة فهي على أصلها فيما قيل. وأنت تعلم أنه لا يتسنى ذلك إلا إذا أريد الكل المجموعي وهو كما ترى.
وفي البحر أن قوله تعالى : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) إشارة إلى النبوة. وقوله سبحانه : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) إشارة إلى الملك ، والجملتان كالشرح للميراث وعن مقاتل أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو ما يهمه عليهالسلام من أمر الدنيا والآخرة. وقد يقال : إنه ما يحتاجه الملك من آلات الحرب وغيرها (إِنَّ هذا) إشارة إلى ما ذكر من التعليم والإيتاء (لَهُوَ الْفَضْلُ) والإحسان من الله تعالى (الْمُبِينُ) الواضح الذي لا يخفى على أحد أو أن هذا الفضل الذي أوتيته لهو الفضل المبين. فيكون من كلامه عليهالسلام قطعا ذيل به ما تقدم منه ليدل على أنه إنما قال ما قال على سبيل الشكر كما قال صلىاللهعليهوسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» بالراء المهملة آخره كما في الرواية المشهورة أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا. ويقرب من هذا المعنى ولا فخر بالزاي كما في الرواية الغير المشهورة.
(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي جمع له عساكره من الأماكن المختلفة (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) بيان للجنود في البحر وغيره. ولا يلزم من ذلك أن يكون الجنود المحشورون له عليهالسلام جميع الجن وجميع الإنس