الإسلام (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) حتى هي التي يبتدأ بها الكلام ومع ذلك هي غاية لما قبلها وهي هاهنا غاية لما ينبئ عنه قوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) من السير كأنه قيل : فساروا حتى إذا أتوا إلخ ، ووادي النمل واد بأرض الشام كثير النمل على ما روي عن قتادة ومقاتل ، وقال كعب : هو وادي السدير من أرض الطائف ، وقيل : واد بأقصى اليمن وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها ، وقيل : هو واد تسكنه الجن والنمل مراكبهم وهذا عندي مما لا يلتفت إليه.
وتعدية الفعل إليه بكلمة على مع أنه يتعدى بنفسه أو بإلى إما لأن إتيانهم كان من جانب عال فعدي بها للدلالة على ذلك كما قال المتنبي :
ولشد ما جاوزت قدرك صاعدا |
|
ولشد ما قربت عليك الأنجم |
لما كان قرب الأنجم وإن أراد بها أبيات شعره من فوق ، وإما لأن المراد بالإتيان عليه قطعه وبلوغ آخره من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره. ثم الإتيان عليه بمعنى قطعه مجاز عن إرادة ذلك وإلا لم يكن للتحذير من الحطم الآتي وجه إذ لا معنى له بعد قطع الوادي الذي فيه النمل ومجاوزته ، والظاهر على الوجهين أنهم أتوا عليه مشاة ، ويحتمل أنهم كانوا يسيرون في الهواء فأرادوا أن ينزلوا هناك فأحست النملة بنزولهم فأنذرت النمل (قالَتْ نَمْلَةٌ) جواب إذا. والظاهر أنها صوتت بما فهم سليمان عليهالسلام منه معنى (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وهذا كما يفهم عليهالسلام من أصوات الطير ما يفهم ، ولا يقدح في ذلك أنه عليهالسلام لم يعلم إلا منطق الطير إما لأنها كانت من الطير ذات جناحين كما أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي وهو وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة ، وكم رأينا نملة لها جناحان تطير بهما ، وكون ذلك لا يقتضي عدها من الطير محل نظر وإما لأن فهم ما ذكر وقع له عليهالسلام هذه المرة فقط ولم يطرد كفهم أصوات الطير ، وليس في الآية السابقة ولا في الأخبار ما ينفي فهم ما يقصده غير الطير من الحيوانات بدون اطراد ، وقال ابن بحر : إنها نطقت بذلك معجزة لسليمان عليهالسلام كما نطق الضب والذراع لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، قال مقاتل : وقد سمع عليهالسلام قولها من ثلاثة أميال ، ويلزم على هذا أنها أحست بنزولهم من هذه المسافة والسمع من سليمان منها غير بعيد لأن الريح كما جاء في الآثار توصل الصوت إليه أو لأن الله تعالى وهبه إذ ذاك قوة قدسية سمع بها إلا أن إحساس النملة من تلك المسافة بعيد ، والمشهور عند العرب بالإحساس من بعيد القراد حتى ضربوا به المثل. وأنت تعلم أنه لا ضرر في إنكار صحة هذا الخبر ، وقيل : إنه عليهالسلام لم يسمع صوتا أصلا وإنما فهم ما في نفس النملة إلهاما من الله تعالى ، وقال الكلبي : أخبره ملك بذلك وإلى أنه لم يسمع صوتا يشير قول جرير :
لو كنت أوتيت كلام الحكل |
|
علم سليمان كلام النمل |
فإنه أراد بالحكل ما لا يسمع صوته ؛ وقال بعضهم : كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها وصاحت صيحة تنبهت بها ما بحضرتها من النمل فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولا له فيكون الكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية ، ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية.
وأنت تعلم أنه لا ضرورة تدعو إلى ذلك. ومن تتبع أحوال النمل لا يستبعد أن تكون له نفس ناطقة فإنه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء ويشق ما يدخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس