تعليق بل كلمة (ما ذا) موصول في موضع المفعول كذا قيل ، والظاهر أنه بمعنى التأمل وأن المراد فتأمل وتعرف ما ذا يرد بعضهم على بعض من القول. وهذا ظاهر في أن الله تعالى أعطى الهدهد قوة يفهم بها ما يسمعه من كلامهم ، والتعبير بالإلقاء لأن تبليغه لا يمكن بدونه. وجمع الضمير لأن المقصود تبليغ ما فيه لجميع القوم والكشف عن حالهم بعده.
(قالَتْ) أي بعد ما ذهب الهدهد بالكتاب فألقاه إليهم وتنحى عنهم حسبما أمر به ، وإنما طوى ذكره إيذانا بكمال مسارعته إلى إقامة ما أمر به من الخدمة وإشعارا بالاستغناء عن التصريح به لغاية ظهوره.
روي أنه عليهالسلام كتب كتابه وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد فذهب به فوجدها راقدة في قصرها بمأرب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية ، وفي رواية بين ثدييها ، وقيل : نقرها فانتبهت فزعة ، وقيل : أتاها والقادة والجنود حواليها فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت فقالت ما قالت ، وقيل : كانت في البيت كوة تقع الشمس منها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسدها بجناحيه فرأت ذلك وقامت إليه فألقى الكتاب إليها وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل يعرب بن قحطان واشتهر أنها من نسل تبع الحميري وكان الخط العربي في غاية الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة وهو المسمى بالخط الحميري وكان بحمير كتابة تسمى المسند حروفها مفصلة وكانوا يمنعون من تعليمها إلا بإذنهم ومن حمير تعلم مضر ، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك.
واختار ابن خلدون القول بأنه تعلم الكتابة العربية من التبابعة وحمير أهل الحيرة وتعلمها منهم أهل الحجاز. وظاهر كون بلقيس من العرب وأنها قرأت الكتاب يقتضي أن الكتاب كان عربيا ، ولعل سليمان عليهالسلام كان يعرف العربي وإن لم يكن من العرب ، ومن علم منطق الطير لا يبعد أن يعلم منطق العرب الذي هو أشرف منطق ، ويحتمل أن يكون عنده من يعرف ذلك وكذا من يعرف غيره من اللغات كعادة الملوك يكون عندهم من يتكلم بعدة لغات ليترجم لهم ما يحتاجونه ، ويجوز أن يكون الكتاب غير عربي بل بلغة سليمان عليهالسلام وقلمه وكان قلمه كما نقل عن الإمام أحمد البوني كاهنيا وكان عند بلقيس من ترجمه لها وأعلمها بما فيه فجمعت أشراف قومها وأخبرتهم بذلك واستشارتهم كما حكى سبحانه عنها بقوله جل وعلا قالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) إلخ ، وأقدم سليمان عليهالسلام على كتابة الكتاب إليها كذلك قول الهدهد : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] والمترجم من الأشياء التي يحتاج إليها الملك وأن اللائق بشأنه وعظمته أن لا يترك لسانه ويتشبه بها في لسانها ، ويحتمل أنها كانت بنفسها تعرف تلك الكتابة فقرأت الكتاب لذلك ، ورجح احتمال أن يكون الكتاب غير عربي بأن الكتابة لها بالعربية تستدعي الوقوف على حالها وهو عليهالسلام ما وقف عليه بعد.
وتعقب بأنه دله على كونها عربية قول الهدهد : (جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) [النمل : ٢٢ ، ٢٣] فإنه عليهالسلام ممن لا يخفى عليه كون سبأ من العرب والظاهر كون ملكتهم منهم ، ووصفت الكتاب بالكرم لكونه مختوما ففي الحديث : «كرم الكتاب ختمه» ، وفي شرح أدب الكاتب يقال أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته ، وقال ابن المقنع : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به ، وقد فسر ابن عباس وقتادة وزهير بن محمد «الكريم» هنا بالمختوم ، وفيه كما قيل استحباب ختم الكتاب لكرم مضمونه وشرفه أو لكرم مرسله وعلو منزلته وعلمت ذلك بالسماع أو بكون كتابه مختوما باسمه على عادة الملوك والعظماء أو بكون رسوله به الطير أو