لبداءته باسم الله عزوجل أو لغرابة شأنه ووصوله إليها على منهاج غير معتاد ، وقيل : إن ذلك لظنها إياه بسبب أن الملقى له طير أنه كتاب سماوي وليس بشيء. وبناء (أُلْقِيَ) للمفعول لعدم الاهتمام بالفاعل ، وقيل : لجهلها به أو لكونه حقيرا. وقال الشيخ الأكبر قدسسره في الفصوص : من حكمة بلقيس كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب وما ذاك إلا لتعلم أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها. وفي ذلك سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها وبهذا استحقت التقديم عليهم انتهى ، وتأكيد الجملة للاعتناء بشأن الحكم ، وأما التأكيد في قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فلذاك أيضا أو لوقوعه في جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ممن هذا الكتاب وما ذا مضمونه؟ فقيل : إنه من سليمان إلخ ، ويحسن التأكيد بأن في جواب السؤال ولا أرى فرقا في ذلك بين المحقق والمقدر ، ويعلم مما ذكر أن ضمير (إِنَّهُ) الأول للكتاب وضمير (إِنَّهُ) الثاني للمضمون وإن لم يذكر ، وليس في الآية ما يدل على أنه عليهالسلام قدم اسمه على اسم الله عزوجل ، وعلمها بأنه من سليمان يجوز أن يكون لكتابة اسمه بعد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن رومان أنه قال : كتب سليمان بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن داود إلى بلقيس ابنة ذي شرح وقومها ـ أن لا تعلوا ـ إلخ ، وجوز أن يكون لكتابته في ظاهر الكتاب وكان باطن الكتاب (بِسْمِ اللهِ) إلخ ، وقيل : ضمير (إِنَّهُ) الأول للعنوان وأنه عليهالسلام عنوان الكتاب باسمه مقدما له فكتب من سليمان (بِسْمِ اللهِ) إلخ واستظهر هذا أبو حيان ثم قال : وقدم عليهالسلام اسمه لاحتمال أن يبدر منها ما لا يليق إذ كانت كافرة فيكون اسمه وقاية لاسم الله عزوجل وهو كما ترى ، وكتابة البسملة في أوائل الكتب مما جرت به سنة نبينا صلىاللهعليهوسلم بعد نزول هذه الآية بلا خلاف ، وأما قبله فقد قيل إن كتبه عليه الصلاة والسلام لم تفتتح بها ، فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم فكتب النبي صلىاللهعليهوسلم أول ما كتب باسمك اللهم حتى نزلت (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] فكتب بسم الله ثم نزلت (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) [الإسراء : ١١٠] فكتب بسم الله الرحمن ثم نزلت آية النمل (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) الآية فكتب بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم يكتب باسمك اللهم فلما نزلت (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) الآية كتب بسم الله إلخ ، وروي نحو ذلك عن ميمون بن مهران وقتادة ، وهذا عندي مما لا يكاد يتسنى مع القول بنزول البسملة قبل نزول هذه الآية وهذا القول مما لا ينبغي أن يذهب إلى خلافه ، فقد قال الجلال السيوطي في إتقانه اختلف في أول ما نزل من القرآن على أقوال ، أحدها وهو الصحيح (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] واحتج له بعده أخبار منها خبر الشيخين في بدء الوحي وهو مشهور ، وثانيها (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر : ١] وثالثها سورة الفاتحة ، ورابعها البسملة ثم قال وعندي أن هذا لا يعد قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق ا ه.
وهو يقوي ما قلناه فإن البسملة إذا كانت أول آية نزلت كانت هي المفتتح لكتاب الله تعالى وإذا كانت كذلك كان اللائق بشأنه صلىاللهعليهوسلم أن يفتتح بها كتبه كما افتتح الله تعالى بها كتابه وجعلها أول المنزل منه.
والقول بأنها نزلت قبل إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم مشروعيتها في أوائل الكتب والرسائل حتى نزلت هذه الآية المتضمنة لكتابة سليمان عليهالسلام إياها في كتابه إلى أهل سبأ مما لا يقدم عليه إلا جاهل بقدره عليه الصلاة والسلام ، وذكر بعض الأجلة أنها إذا كتبت في الكتب والرسائل فالأولى أن تكتب سطرا وحدها.