ادْخُلِي) إلخ ولم يعطف على قوله تعالى : (أَهكَذا عَرْشُكِ) لئلا يفوت هذا المعنى. وجيء بلها هنا دون ما مر لمكان أمرها ، و (الصَّرْحَ) القصر وكل بناء عال. ومنه (ابْنِ لِي صَرْحاً) [غافر : ٣٦] وهو من التصريح وهو الإعلان البالغ ، وقال مجاهد (الصَّرْحَ) هنا البركة وقال ابن عيسى الصحن وصرحة الدار ساحتها وروي أن سليمان عليهالسلام أمر الجن قبل قدومها فبنوا له على طريقها قصرا من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره. وفي رواية أنهم بنوا له صرحا وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنها الماء وجعلوا في باطن الطوابيق كل ما يكون من الدواب في البحر ثم أطبقوه ، وهذا أوفق بظاهر الآية ـ ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس وفعل ذلك امتحانا لها أيضا على ما قيل ، وقيل : ليزيدها استعظاما لأمره وتحقيقا لنبوته وثباتا على الدين ، وقيل لأن الجن قالوا له عليهالسلام إنها شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فأراد الكشف عن حقيقة الحال بذلك ، وقال الشيخ الأكبر قدسسره ما حاصله إنه أراد أن ينبهها بالفعل على أنها صدقت في قولها في العرش «كأنه هو» حيث إنه انعدم في سبأ ووجد مثله بين يديه فجعل لها صرحا في غاية اللطف والصفاء كأنه ماء صاف وليس به ، وهذا غاية الإنصاف منه عليهالسلام ولا أظن الأمر كما قال والله تعالى أعلم. واستدل بالآية على القول بأن أمرها بدخول الصرح ليتوصل به إلى كشف حقيقة الحال على إباحة النظر قبل الخطبة وفيه تفصيل مذكور في كتب الفقه.
(فَلَمَّا رَأَتْهُ) أي رأت صحنه بناء على أن الصرح بمعنى القصر (حَسِبَتْهُ لُجَّةً) أي ظنته ماء كثيرا (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لئلا تبتل أذيالها كما هو عادة من يريد الخوض في الماء ، وقرأ ابن كثير برواية قنبل «سأقيها» بهمز ألف ساق حملا له على جمعه سؤق وأسؤق فإنه يطرد في الواو المضمومة هي أو ما قبلها قلبها همزة فانجر ذلك بالتبعية إلى المفرد الذي في ضمنه.
وفي البحر حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد :
أحب المؤقدين إلى مؤسى
وفي الكشف الظاهر أن الهمز لغة في ساق ويشهد له هذه القراءة الثابتة في السبعة. وتعقب بأنه يأباه الاشتقاق. وأيا ما كان فقول من قال : إن هذه القراءة لا تصح لا يصح (قالَ) أي سليمان عليهالسلام حين رأى ما اعتراها من الدهشة والرعب ، وقيل : القائل هو الذي أمرها بدخول الصرح وهو خلاف الظاهر (إِنَّهُ) أي ما حسبته لجة (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي مملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر في وجهه وشجرة مرداء لا ورق عليها ورملة مرداء لا تنبت شيئا والمراد المتعري من الخير (مِنْ قَوارِيرَ) من الزجاج وهو جمع قارورة.
(قالَتْ) حين عاينت هذا الأمر العظيم (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي بما كنت عليه من عبادة الشمس ، وقيل : بظني السوء بسليمان عليهالسلام حيث ظنت أنه يريد إغراقها في اللجة وهو بعيد. ومثله ما قيل أرادت ظلمت نفسي بامتحاني سليمان حتى امتحنني لذلك بما أوجب كشف ساقي بمرأى منه (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) تابعة له مقيدة به ، وما في قوله تعالى : (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) من الالتفات إلى الاسم الجليل لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى وتفرده باستحقاق العبادة وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس ، وكأن هذا القول تجديد لإسلامها على أتم وجه وقد أخرجته مخرجا لا أنانية فيه ولا كبر أصلا كما لا يخفى. واختلف في أمرها بعد الإسلام فقيل إنه عليهالسلام تزوجها وأحبها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له.