القراءتين نصب على الحال من ضمير (كُلٌ) وقوله سبحانه : (وَتَرَى الْجِبالَ) عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير ؛ وترى من رؤية العين ، وقوله تعالى : (تَحْسَبُها جامِدَةً) أي ثابتة في أماكنها لا تتحرك حال من فاعل ترى أو من مفعوله ، وجوز أن يكون بدلا من سابقه ، وقوله عزوجل.
(وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) حال من ضمير الجبال في تحسبها ، وجوز أن يكون حالا من ضميرها في جامدة ومنعه أبو البقاء لاستلزامه أن تكون جامدة ومارة في وقت واحد أي وترى الجبال رأي العين ساكنة والحال أنها تمر في الجو مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرا حثيثا ، وذلك أن الأجرام المجتمعة المتكاثرة العدد على وجه الالتصاق إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تبين حركتها ، وعليه قول النابغة الجعدي في وصف جيش :
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم |
|
وقوف لحاج والركاب تهملج |
وقيل : شبه مرها بمر السحاب في كونها تسير سيرا وسطا كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها |
|
مر السحائب لا ريث ولا عجل |
والمشهور في وجه الشبه السرعة وإن منشأ الحسبان المذكور ما سمعت ، وقيل : إن حسبان الرائي إياها جامدة مع مرورها لهول ذلك اليوم فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها جامدة وليس بذاك وقد أدمج في التشبيه المذكور تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما في قوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] واختلف في وقت هذا ، ففي إرشاد العقل السليم أنه مما يقع بعد النفخة الثانية كالفزع المذكور عند حشر الخلق يبدل الله تعالى شأنه الأرض غير الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة يشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكون بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٨] ، وقوله سبحانه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم : ٤٨] فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل وبروز الخلق لله تعالى لا يكونان إلا بعد النفخة الثانية وقد قالوا في تفسير قوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ) [الكهف : ٤٧] إن صيغة الماضي في المعطوف مع كون المعطوف عليه مستقبلا للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك ا ه.
وقال بعضهم إنه مما يقع عند النفخة الأولى وذلك أنه ترجف الأرض والجبال ثم تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا ثم هباء منبثا ، ويرشد إلى أن هذه الصيرورة مما لا يترتب على الرجفة ولا تعقبها بلا مهلة العطف بالواو دون الفاء في قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) [المزمل : ١٤] والتعبير بالماضي في قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ) لتحقق الوقوع كما مر آنفا واليوم في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) [طه : ١٠٥] الآية ، وقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) إلخ يجوز أن يجعل اسما للحين الواسع الذي يقع فيه ما يكون عند النفخة الأولى من النسف والتبديل وما يكون عند النفخة الثانية من اتباع الداعي والبروز لله تعالى الواحد القهار ، وقد حمل اليوم على ما يسع ما يكون عند النفختين في قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الحاقة : ١٣ ـ ١٥] (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) [الحاقة : ١٨] وهذا كما تقول جئته عام كذا وإنما مجيئك في وقت من أوقاته وقد ذهب غير