نحو الآية التي أوردها ابن المنير كونها من باب التهكم ، وهذا نظير ما قالوا : إن البشارة في الخير ، وبشرهم بعذاب أليم من باب التهكم.
وقال الطيبي انتصارا للبعض أيضا : قلت : الآية غير مانعة عن ذلك فإن قرينة اللعنة والسوء مانعة عن إرادة الخير وإنما أتى بلهم ليؤذن بأنهما حقان ثابتان لهم لازمان إياهم ، ويعضده التقديم المفيد للاختصاص فتدبر وقرأ حمزة ، والكسائي. «يكون» بالياء التحتية ، لأن المرفوع مجازي التأنيث ومفصول عن رافعه.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوزون بمطلوب ولا ينجون عن محذور ، وحاصل كلام موسى عليهالسلام ربي أعلم منكم بحال من أهله سبحانه للفلاح الأعظم حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى ، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبئ الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) قاله اللعين بعد ما جمع السحرة وتصدى للمعارضة ، والظاهر أنه أراد حقيقة ما يدل عليه كلامه وهو نفي علمه بإله غيره دون وجوده فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه ، ولم يجزم بالعدم بأن يقول : ليس لكم إله غيري مع أن كلا من هذا وما قاله كذب ، لأن ظاهر قول موسى عليهالسلام له لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر يقتضي أنه كان عالما بأن إلههم غيره ، وما تركه أوفق ظاهرا بما قصده من تبعيد قومه عن اتباع موسى عليهالسلام اختيارا لدسيسة شيطانية وهو إظهار أنه منصف في الجملة ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في أمر الإله وتسليمهم إياه له اعتمادا على ما رأوا من إنصافه فكأنه قال ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى ، والأمر محتمل وسأحقق لكم ذلك.
(فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي اصنع لي آجرا (فَاجْعَلْ لِي) منه (صَرْحاً) أي بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر (لَعَلِّي أَطَّلِعُ) أي أطلع وأصعد فافتعل بمعنى الفعل المجرد كما في البحر وغيره.
(إِلى إِلهِ مُوسى) الذي ذكر أنه إلهه وإله العالمين ، كأنه يوهم قومه أنه تعالى لو كان كما يقول موسى لكان جسما في السماء كون الأجسام فيها يمكن الرقي إليه ثم قال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما يذكر تأكيدا لما أراد وإعلاما بأن ترجيه الصعود إلى إله موسى عليهالسلام ليس لأنه جازم بأنه هناك ، والأمر بجعل الصرح وبنائه لا يدل على أنه بني ، وقد اختلف في ذلك فقيل بناه وذكر من وصفه ما الله عزوجل أعلم به ، وقيل لم يبن وعلى هذا يكون قوله ذلك وأمره للتلبيس على قومه وإيهامه إياهم أنه بصدد تحقيق الأمر ، ويكون ما ذكر ذكرا لأحد طرق التحقيق فيتمكن من أن يقول بعده حققت الأمر بطريق آخر فعلمت أن ليس لكم إله غيري وأن موسى كاذب فيما يقول ، وعلى الأول يحتمل أن يكون صعد الصرح وحده أو مع من يأمنه على سره وبقي ما بقي ثم نزل إليهم فقال لهم : صعدت إلى إله موسى وحققت أن ليس الأمر كما يقول وعلمت أن ليس لكم إله غيري. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : لما بني له الصرح ارتقى فوقه فأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي متلطخة دما فقال قتلت إله موسى ، وهذا إن صح من باب التهكم بالفعل ولا أظنه يصح ، وأيا ما كان فالقوم كانوا في غاية الغباوة والجهل وإفراط العماية والبلادة وإلا لما نفق عليهم مثل هذا الهذيان. ولله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، ولا يبعد أن يقال كان فيهم من ذوي العقول من يعلم تمويهه وتلبيسه ويعتقد هذيانه فيما يقول إلا أنه نظم نفسه في سلك الجهال ولم يظهر خلافا لما عليه اللعين بحال من الأحوال وذلك إما للرغبة فيما لديه أو للرهبة من سطوته واعتدائه عليه وكم رأينا عاقلا وعالما فاضلا يوافق لذلك الظلمة الجبابرة ويصدقهم فيما يقولون وإن كان مستحيلا أو كفرا بالآخرة.